تشكل العصبية عند ابن خلدون المفتاح المنهجي لفهم أسباب، وآلية، ومقدمات ظهور الدولة والحضارة. وتتمثل العصبية في سلوك اجتماعي سياسي مقصود، هدفه وغايته الوصول إلى السلطة. ومن هذا المنطلق، خصص ابن خلدون فصلا في مقدمته للحديث عن غاية العصبية ومرادها؛ وعَنْوَنَ ذلك الفصل بقوله: «فصل في أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي المُلْك». ويقصد بذلك أن العصبية تتشكل وتتآزر وتلتحم وتتناصر، وتتحالف، سعيا إلى هدف واحد، هو المُلْك، بلغة عصر ابن خلدون، والسلطة، باللغة السياسية المعاصرة.

مِمَّ تتكون العصبية؟

الحقيقة أن هناك خطأً وقع فيه بعض من تناولوا نظرية العصبية الخلدونية بالتحليل، ومنهم عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين، عندما قصروا مدلول العصبية على عصبية النسب والقرابة، بينما كان مدلولها واسعا عند صاحب المقدمة، إذ قرر «أن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب، أو ما في معناه.... ومن هذا الباب الولاء والحلف...إذ النسب أمر وهمي لا حقيقة له؛ ونفعه إنما هو في هذه الوصلة والالتحام».

وإذا تأملنا عبارة «أو ما في معناه»، أدركنا أن عصبية النسب لم تكن إلا مجرد مثال ضربه ابن خلدون للدلالة على معنى العصبية وفاعليتها، متمثلة في قوة الرابطة بين الأفراد الذين يتحدون لتحقيق هدف واحد، يقاتلون دونه، ويدافعون عنه بكل قوة واستماتة. فـ«النسب إنما فائدته هذا الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام، حتى تقع المناصرة والنعرة؛ وما فوق ذلك مستغنى عنه».

إذن، النسب في العصبية الخلدونية ليس مقصودا لذاته، وإنما لفائدته في النعرة والنصرة؛ وبالجملة: فائدته تنحصر في الوصول إلى الغاية التي تجري إليها العصبية. ومن ثم، فإنه، أي النسب، ليس إلا مثالا يضربه ابن خلدون لإحدى آليات العصبية في الوصول إلى السلطة. بمعنى أن السلطة لا بد لها من عصبية تُوصِل إليها، بغض النظر عن نوع تلك العصبية.

مع ذلك، حمل تعريف ابن خلدون للعصبية ما يؤكد تعميمها لتتجاوز النسب والقرابة، حين ضَمَّنَ تعريفه لها عبارة «أو ما في معناه». وهي تعني (تعميم) العصبية، بمعناها الواسع، كما يقول (د. مصطفى النشار)، في كتابه [فلاسفة أيقظوا العالم]. فقد تكون العصبية، عصبية المبدأ السياسي الواحد، أو العقيدة الدينية الواحدة، أو عقيدة الحزب الواحد، التي يجتمع حولها الأفراد. ويضيف النشار: «وإذا كان ذلك كذلك، فإن العصبية كانت، ولا تزال هي العنصر الأساس في تولي الحكم، أيّا كان نوع الحكم، سواء أكان حكما ديمقراطيا دستوريا، أو حكما فرديا؛ فكل من يشاء الوصول إلى الحكم، لا بد من أن يرشحه حزب معين، أو كتلة معينة، أو يستولي عليها بقوة عسكرية تسانده، فتكون هي عصبيته».

من جهة أخرى، إذا كانت السلطة هي الغاية التي تجري إليها العصبيات في كل زمان ومكان، فإن النتيجة المترتبة على ذلك، بالضرورة، أن الشعارات التي ترفعها تلك العصبيات، ليست إلا محض وسائل إضافية على طريق القبض على السلطة؛ وهذا ما أكده التاريخ، ولمّا يزل، في القديم منه والحديث.

في القديم، رفع الأمويون شعار «قميص عثمان»، فلما تم لهم الأمر، نسوا عثمان وقميصه. ثم رفع من بعدهم العباسيون شعار «الدعوة إلى الرضا من آل محمد»، فلما قبضوا على السلطة، لم يرفضوا تقاسم السلطة مع آل البيت فحسب، بل حاربوهم بضراوة، بصفتهم معارضين سياسيين. كما رفع مَن جاء بعدهم، من بويهين، وسلاجقة، ومماليك، وعثمانيين، شعارات مشابهة، نفضوا أيديهم منها فور قبضهم على السلطة.

في العصر الحديث، رفعت الجماعات «الإسلامية» يافطات دينية براقة، من قبيل الشعار الإخواني الأثير «الإسلام هو الحل»، إلا أن الغاية التي تجري إليها عصبياتها هي السلطة وحدها، وليست الشعارات واليافطات المرفوعة، دينية كانت أم دنيوية، إلا وسائل لدعم الغاية الأساسية. وهذا ما لم ينتبه له قطاع عريض من الجمهور العربي والإسلامي، إذ ظلوا ينساقون تلقائيا خلف تلك الشعارات البراقة التي ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها من قبله العذاب.