حديثي في هذا المقال عنك أنت، وحالك مع أولئك الذين ينهشون روحك، ويقضمون قلبك، الذين يكيلون لك المشاعر الزائفة، ويرهقونك من مشاعرك عسرًا، الذين يتوجون كلمات الحب والوفاء بكلمة (أنت الوحيد...) كل مرة، ولكنهم يبذلونها لكل أحد كل مرة. إنه حديث عن الصداقات السامَّة المتعبة والمستنزفة، التي أرهقت كاهلك في الحياة التي تعيش أصلًا في كبدٍ فوق الكبد، إنه حديث عن صداقتك لذلك الشخص الأناني، الذي لا يرى إلا نفسه، إنه حديث عمن منحته ثقة ليس أهلًا لها، إنه حديث عمن بات مصدر قلق وأرق لك، عن ذلك الذي تضطر للدفاع عنه لمدافعة التهم عن سمعتك وصورتك أمام الناس، إنه حديث عمن يثير ضيقك وتبرمك عندما تشاهد اسمه على أحد إشعارات جوالك، إنه في النهاية حديث عمن لا تعرف لماذا أنت صديقه أصلًا؟.

ينظر البشر إلى الصداقة كإحدى أهم العلاقات، وقد أولى علم النفس الحديث أهمية كبيرة لدراسة الصداقة كعلاقة، لكن النتائج التي ظهرت خلال العقود الأخيرة لم تشر فقط إلى الدور الإيجابي الذي تلعبه الصداقة في حياتنا، بل أشارت إلى دور غاية في السلبية لصداقات يطلق عليها الصداقات أو العلاقات المسمومة، وهي مزيج من الصداقات المزيفة التي تقودها المصالح الذاتية الرخيصة.

والعلاقة التي لا تجعلك تشرق، ولا ترى صديقك منبهراً بك، وأنت منبهر به، الصديق الذي يحبك وتحبه في كل الحالات، وتفرحان لفرح بعضكما البعض، وتحزنان للحزن ذاته. الصديق الذي أنت من أهم اهتماماته، وهو من أولياتك الأولى، هي غالبًا صداقة حيادية، أو صداقة سامة.

والصداقة الأكثر سُمية هي تلك الصداقة التي تلعب على وتر العواطف والمشاعر، وتثير القلق، والتوتر كل تماسٍ، أو كل احتكاك، تلك الصداقة التي تركض فيها بلا جهة وبلا محطة وصول، تلك العلاقة التي تبرر فيها دائمًا، وتدافع عن موقفك غالب الوقت.

وأعراض التسمم بالصداقة، كثيرة ولعل أبرزها، تلك الصداقة التي يعلوها ويتصدر سنام سيرتها ومسيرتها الأخذ دون العطاء، سواء أكان الأخذ ماديًا أم معنويًا، والأخير مدمر، وجرحه لا يندمل. الثقة المعدومة سمة وعلامة فارقة في تلك الصداقة، وتتركز سُمية الصداقة عندما يتصدر المشهد بينكما النقد الدائم للنقد ذاته، وعندما يتولد منها طاقة سالبة ومبيدة لكل فرح وسعادة. تسممك الصداقة حينما يكون ضعف التواصل، والشعور المتدني بقيمتك، وقلة الدعم ديدن التعاطي وتبادل الأدوار المفترض بين الأصدقاء. تسممك الصداقة حينما ترى رغبة عارمة لدى صديقك لتغييرك لتوافق طريقه وأسلوبه ومنهجه. نعم يا سيدي! الصداقة السامَّة هي التي تمنحك بامتياز الشعور بأنك تقاتل طوال الوقت لاستمرار العلاقة.

ولا شك أن من الإشكاليات الغالبة أن للصداقة السامّة تأثيرا سلبيا في علاقتنا بالآخرين، بشكل مباشر أو غير مباشر، وقد تكون مسؤولة عن إفساد علاقتنا بالأصدقاء الحقيقيين بسبب ميل الصديق السامّ للمنافسة والشعور بالغيرة والحسد.

العلاقات المسمومة غالبًا ما تنتج عن الارتباط غير الصحي، بسبب الاختلالات النفسية والاعتلالات الشخصية التي يعاني منها الطرف غير السامّ. نعم نحن متفقون أن البدايات دائمًا أجمل، مع فورة المشاعر، والشغف بالصداقة، التي تجعل العالم صافيًا بلا مشاكل، وهذه المشاعر حينما تطغى فإنها تعمينا عن صغائر لا نراها تسمم العلاقة تدريجيًا، وتجعلها مصدرًا للإيذاء، ولا ندرك ذلك بشكل عميق إلا بعد أن تتطور العلاقة بمرور الزمن، فتظهر صفات لم ننتبه لها في البداية، ولذا يجب ألا نعتمد على الدقات الأولى للقلب، فكل علاقة مع الآخرين قد تصبح يومًا ما إضافة مميزة أو علاقة سامة.

ولا يغيب عن البال، أن أكثر مؤثر في الصحة النفسية، هو وجود علاقة طيبة وصحية في الحياة، علاقات بها قرب وحب وتراحم وتفاهم، إذ إن مواصفات الصديق المنتج للعلاقة الصحية الطيبة، التي حددها الطب النفسي: (موجود ولو غاب، مستمع ومصغٍ، قبوله غير مشروط، لا يحكم مهما كلف الأمر، متفهم ومتفاهم ومتناغم، مسامح ومتنازل، لا يتكلف ولا يتزين).

وتكمن معضلة الصداقة السامّة، في أن الكثير من المتضررين منها يعتقدون أن بإمكانهم تغيير السامين من الأصدقاء، ولكنها أشبه بالمهام المستحيلة التي لا تتحقق، فمتى بنيت العلاقة على أساس رخو، فإنها ستستمر كذلك إلى الأبد، هذا إن كان الصديق السام على الطبيعة المعتادة، أما إن كانت السمية متأصلة في هذا الصديق، فمن المتعذر تغييره، فإحداث تغيير في شخص يملك سلطة على من يريد إحداث التغيير غير ممكن، فالسامّ اعتاد على الأخذ، ولم يعتد على العطاء والتجاوب والقبول، واعتاد التسلط ولم يعتد الرضوخ والإقرار، ومن المتوقع أن يكون الشخص السام في هذه الحالة لئيمًا وقاسيًا وحاقدًا.

وحينما يروم الإنسان تحرير نفسه من علاقة سامّة، سيدرك كم هي الحياة أجمل بلا سموم، وسيدرك أنّ هناك ما هو أفضل، وسيرى فضاءات كانت غائبة ومحجوبة عن ناظريه، بسبب الغشاوة التي يسببها تعاطي السمّ الأخوي على عينيه.

غالبًا، دائرة الدعم الخاصة بك، والتي تضم أصدقاءك الحقيقيين، تستطيع أن ترى الأمور بحيادية وعقلانية أكثر، وتشخص بدقة أكثر منك: مدى سمية العلاقة التي أنت فيها، وهي فقط التي ستذكرك باستمرار أنك تستحق الأفضل، وتذكرك كذلك أنه لا يوجد إنسان آخر قطعة في الكون.

أخيرًا، أحبك يا صديقي، ولكنني لا أحتاجك؛ لأبقى على قيد الحياة، أو قيد الأمل، أو قيد السعادة.