من يعتقد أن العاصمة الرياض لم تُعُد مصنعاً، يعمل على مدار العام للقرارات الحاسمة، فهو من وجهة نظري بحاجة إلى أن يعود إلى طبيب نفساني، إن صحة التسمية نفساني أو نفسي، المهم القصد مفهوم. في خضّم عملية خلط الأوراق المقصود منها وغير المقصود، كانت ولا تزال، مقصداً لطالب الرأي والمشورة، والموقف الذي «لا يتزحزح» مهما كلف الثمن. مُفردة «لا يتزحزح» قادتني لذكرى حديث الملك فهد بن عبد العزيز – رحمه الله – إبان غزو دولة الكويت الشقيقة من قبل نظام صدام حسين، حين قال «إما أن نعود مع الكويت، أو نذهب جميعاً.

لا يوجد شيء اسمه سعودية وآخر اسمه كويت». وموقف الملك عبد الله بن عبد العزيز –رحمه الله – مع مملكة البحرين حين كانت طهران بأذنابها على مقربة من حدودها، ومع مصر الشقيقة الكُبرى حين وصل الجميع لقناعة أن جماعة الإخوان المسلمين، وبعد مرور سنة واحدة فقط، ليست صالحة للسياسة.

وموقف خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان – أمد الله في عمره – حين لجأت له الحكومة الشرعية في اليمن. من المتوقع أن يكون هناك من يُحاجنّي في حديثي السابق، ويسوق لي ما يمكن تصوره على أنه حُجج، بحاجة إلى مُقارعة بحُجج أخرى مقابلة، لا ضير في ذلك.

قد يكون هناك من يتصور أن الموقف السعودي مع دولة الكويت، يستند على كون الكويت تمثل العمق للمملكة العربية السعودية، هذا صحيح. وقد يرى البعض أن مملكة البحرين امتداد للمملكة، هذا صحيح. ويُمكن أن يجزم الكثير بأن أياً من الأطراف العربية الحكيمة لا يُمكنها الاستغناء عن مصر، وذلك بالمطلق صحيح. وقد يكون هناك من يعتقد أن الجمهورية اليمنية مُنذُ الأزل، تُمثل الحديقة الخلفية للمملكة العربية السعودية، وهذا بلا جدال صحيح. سأتفق وأؤمن يقيناً بجميع ما سبق، الحُجج وأشكال مقارعتها، لكن يجب أن يقتنع الجميع بأن المواقف السعودية تلك، والتي دونها التاريخ للأجيال المقبلة، ليست من قِبَل البحث عن نفوذٍ أو موطئ قدم، إنما من باب الأخلاقيات والأدبيات السعودية التي أرساها مؤسس هذا الكيان الكبير جلالة الملك عبد العزيز – رحمه الله -.

هذا أولاً، وثانياً، من منطلق الالتزام بالعهود، مكتوبةً كانت أو ليست مكتوبة. كيف؟، في الأخلاقيات السعودية البحتة والتي اتخذتها دول الخليج بالعموم منهجاً لها، عناوين عريضة وأبواب كبيرة، يُخال إليّ أحدها وما زلت أتذكرها، جسدها مهندس الدبلوماسية السعودية الأمير سعود الفيصل – طيب الله ثراه – حين سأله صحافيٌ تونسي حول احتضان الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي، قال له بالنص «هناك عرف عربي ونحن كلنا عرب، والمستجير يُجار، وليست أول مرة المملكة تُجير مستجيراً بها، أو يزبن عندنا إذا ما زبناه». هذا مثال أو ربما دليل يُمكن القياس عليه من ناحية «المُستجير» في الأدبيات السعودية، فكيف لمن يتصور إلى أين تصل الالتزامات الأدبية والأخلاقية والتاريخية مع الجار. حديثي بالمُجمل يتمحور حول النظر بعين الحقيقة لما يشهده العالم، وأفرز دولاً تُعنى بالاعتدال، وتُمثله دول بعينها في المنطقة ورأس حربتها المملكة، وأخرى تتميز بالتمرد والتطرف، تجد داعماً من سيد البيت الأبيض الجديد.

وأتصور أن ذلك الاعتدال الذي أقصد، يقوم الأخلاقيات التي قصدت في بداية المقال، التي أنتجت ثباتاً واستقرار تعيشه الرياض منذ أكثر من مائة عام، وذلك يمكن أن يكون أنموذجاً على الأصعدة كافة، وخولها لأن تصبح مقصداً للباحثين عن موقفٍ ثابت، ورأيٍ راجح، وهذا ما تؤكده زيارات الساعات السريعة، التي يقوم بها زعماء دول العالم للعاصمة السعودية. أتصور أن المزاج السياسي السعودي الثابت، رغم خلط الأوراق الذي يعيشه العالم، واختلاف المقاييس والحسابات السياسية، يُمكن النظر له بشمولية أكبر، من الناحية التي تشكلها المملكة كدولة بنظامٍ ملكي، وذلك يُسقط الأحجية الأمريكية، التي أخذت على عاتقها التسويق للأنظمة الملكية على أنها جامدة، في مقابل مرونة مثلتها دول تنتهج ما يُسمى بـ«ديمقراطية»، وثبت بالدليل القاطع، أن ذلك نظام سياسي يقوم على أفكار فارغة وفاشلة بكل المقاييس، بدليل الاستقرار الذي تعيشه الدول ذات الأنظمة الملكية في المنطقة، بموازاة فرض الديمقراطية على رئيسين أمريكيين – سابق ولاحق – تعرية نفسيهما أمام العالم بأسره، نتيجة ما أسميه «غزوة الكونجرس» التي منحت الفرصة لشذاذ الافاق ممن نهلوا من تعاليم وأسس الديمقراطية عقوداً من الزمان، لأن تسقط أقنعته وتتصدر وحشيتهم المشهد، في صورة تؤكد فشل ذلك النظام برمته. إن الاستقرار الاجتماعي والمعيشي والأخلاقي، الذي تعيشه الدول الملكية يُمكن أن يُحسب تجربةً سياسية ناجحة، بالحد الأعلى للمقاييس الإنسانية، التي تفترض التعايش والسلم الأهلي، بعكس مناهج وأساليب ديمقراطية، اتخذتها دول على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وعملت على مدى عقود لتصدير تجربتها كعامل مُلهم، فيما وضعتها رافعةً لتحريض دول العالم على أنظمتها. إن المبلغ الذي بلغته يقودني داخلياً لإنكار كل صور الأنظمة السياسية، التي تُكرس لها واشنطن على وجه الخصوص، كونها تفتقد للوفاء، والإنسانية، وعدم الثبات، الذي يفرضه انقلاب المزاج السياسي، وتغيير الوجوه البائسة في الولايات المتحدة.

يُمكنني أن أستند بعدم قبولي وتكيفي الشخصي مع الأنظمة الديمقراطية، على رأيٍ لجورج برنارد شو، وهو «أن الديمقراطية تجبرك على الاستماع إلى رأي الحمقى». وعن نفسي، لا ينقصني حمقى، والسلام.