ما بين حسم وقوة القانون الضابط لمكافحة التحرش، وبين تحرّج المجتمع وممانعته من تقديم شكاوى بهذا الشأن، وإلقاء اللوم غالبا في هذه المسائل على عاتق الأنثى، تراوح النساء بين الإقدام والإحجام، وإن كانت صرامة وجدية نظام مكافحة التحرش، إضافة إلى التجاوب السريع من قِبل الجهات الأمنية المختصة، والنيابة العامة، قد ساهما في تشجيع الفتيات على شكوى كل متعدٍ، وعدم التهاون مع أي متحرش.

في المقابل، وأمام قوة القانون، ما يزال المجتمع يضع عوائق في وجه شكاوى الفتيات، ويمنعها من المطالبة بحقها، وهو ما يجعل البعض يفكر بالإقدام على التحرش على الرغم من معرفته بقسوة العقوبات التي قد تطاله وشدتها، متسلحا بجرأة يرى كثيرون أن منبعها هو تردد الفتيات وحتى ذويهن في تقديم شكوى خشية نظرة المحيطين.

لا توجد مدينة فاضلة

يؤكد المستشار، عضو اللجنة العلمية القضائية الدكتور أحمد بن عازب العسيف، متناولا جرأة بعض المتحرشين أنه «ليس هناك في العالم مدينة فاضلة تنعدم فيها السلبيات والأخطاء والمخالفات فضلاً عن الجرائم؛ لأن البشر ليسوا معصومين، ولكن تتفاوت نسب وإحصائيات السلبيات والجرائم والمخالفات من مكان إلى آخر، ومن مجتمع إلى مجتمع آخر، ومن هذا المنطلق فإن كل مجتمع يسعى ويحرص على تقرير الدعائم والنظم المتكاملة في تقليل حدوث هذه الجرائم والمخالفات، وحقيقة أن منظومة الإصلاح في أي مجتمع ليست مقتصرة على تطبيق القوانين القمعية القاسية لتجفيف منابع الجريمة، بل هذه وسيلة واحدة من عدة وسائل من منظومة الإصلاح الاجتماعي».

القوانين القاسية دواء مسكن

أضاف العسيف أن «من ركائز الإصلاح الاجتماعي، الركيزة الأولى، وهي الثقافة العامة النقية (الدين والعلم)، فهي من أهم ما يمنع انتشار الجرائم واستصلاح المجرمين والعمل على جعلهم أفراداً نافعين، والركيزة الثانية هي البيئة الاجتماعية المحافظة (الأسرة)، تليها ركيزة الأوضاع الاقتصادية المنضبطة البعيدة عن الطبقية، وهي توزيع الموارد والفرص بين أفراد المجتمع بعدالة ومساواة، ثم تأتي بعد ذلك ركيزة تطبيق الأحكام الشرعية والأنظمة التي تجرّم الأفعال المحرمة والمخالفات والسلبيات الاجتماعية».

وأضاف «بمجموع هذه الركائز تصلح المجتمعات بصلاح أفرادها ويتلاشى كثير من الجرائم، وتأسيسا على ما سلف ذكره، فإن الاقتصار في إصلاح المجتمعات على القوانين القاسية فقط لا يجدي نفعاً، بل هي دواء مسكّن، سرعان ما ينتهي ويزول مفعوله، خصوصا إذا تمرس المجرمون على ارتكاب الجرائم، وأكبر شاهد على ذلك ما تعانيه الدول الأوروبية والأمريكية وكثير من البلاد غير الإسلامية من انتشار مذهل للجرائم، وجرأة العصابات التي أصبحت محاضن لكبار المجرمين الدوليين، يرافق ذلك تزايد مخيف للإحصائيات الرسمية للجرائم في تلك المجتمعات، مع العلم أن الجرائم التي لا تصل إلى الدولة، أو المقيدة ضد مجهول أدهى وأفظع في تلك الدول، رغم قسوة وقوة قوانينهم التي تطبق بشدة على المجرمين، وهذا سببه عدم تكامل منظومة الإصلاح كما هو الحال في البلاد التي تطبق الشريعة الإسلامية التي تعنى بتربية الفرد وتقوي مراقبته الذاتية وخوفه من الله في السر والعلن، وتحافظ على تماسك الأسرة وحمايتها من الانحرافات الخطيرة وكل ما يزعزع كيانها، وهذه المنظومة الإصلاحية هي المشروع القومي العظيم والمهم في كل دولة وأمة تريد الصلاح والآمن والسعادة».

تطور السلوك الإجرامي

يوضح الأخصائي والباحث في الجرائم الجنسية محمد العوام لـ«الوطن» أن «السلوك الإجرامي هو سلوك متغير ومتطور، ففي السابق لم تكن هناك جرائم ترتكب عبر الإنترنت إلا أن التطور الذي حصل وانتشار شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي أظهر لنا جرائم لم نكن نراها أو نعرفها من قبل، مثل جرائم التحرش والاستغلال الجنسي عبر الإنترنت، وإنتاج وتداول الأفلام الإباحية عبر هذه الشبكة، بهدف المال والجنس، كما صار هناك سلوك إجرامي يتمثل بممارسة التحرش الجنسي والقيام بتصويره وبثه ونشره في وسائل التواصل الاجتماعي، ولتفسير وتحليل هذا السلوك الذي يصدر من المتحرشين والمعتدين لا بد أن نرجع إلى التاريخ، ففي السابق نرى مجرمين يرتكبون جرائمهم ويتواصلون مع الصحف للتحدث عنها واستقطاب الأضواء كي تسلط عليهم، ولكن الحال في هذا الزمن اختلف، فكل شخص أصبح لديه صحيفة خاصة به، وهي وسائل التواصل الاجتماعي، فيقوم المتعدي بتصوير جريمته لينشرها في صحيفته».

محاولة الحصول على الاهتمام

يذكر العوام أن ثمة أهداف عدة من سلوك المجرم الذي ينشر خبر جرمه، ويقول «من تلك الأهداف تخليد اسمه في عالم الجريمة، أو أن يعرف آراء الناس فهو ينتشي من ردودهم وتفاعلهم، حتى وإن كان هذا التفاعل سلبياً، فكل ما يريده هو حديث عامة الناس عنه، وتسليط الأضواء عليه، وهذا يغذي شعور النرجسية (الغرور) الذي بداخله، فالمجرم النرجسي يهمه أن يتحدث عنه الناس وأن يكون شغلهم الشاغل، فهو بهذا يوجه رسالة إلى المجتمع مفادها: أنا موجود، هذا إنجازي تحدثوا عنه، أي أنه يعد باحثا عن الشهرة لكن بالطريقة الخاطئة».

ويضيف «من يزرع هذا السلوك في نفوس البعض هو تهميشهم في حياتهم الواقعية، وشعورهم أنه ليس لديهم أهمية في محيطهم وعدم فهمهم لدورهم الاجتماعي المأمول منهم، نتيجة ما يتعرضون له في بيئتهم المحيطة بهم سواء من داخل الأسرة أم من خارجها، فهم يسعون لإثبات أنفسهم من خلال تصويرهم لتلك الجرائم، وإظهار أنفسهم بأنهم مسيطرين، فهذا يبث في نفوسهم القوة من خلال ردود وتفاعل المجتمع دون الاكتراث بعقوبة فعلتهم، وللحد من هذا السلوك، ومن جرائم التحرش الجنسي عبر الإنترنت لا بد من تخصيص وقت للجلوس مع الأطفال حتى يشعروا بقيمتهم، ولا بد من إكسابهم الثقافة الجنسية حتى لا يكون لدينا جان أو ضحية، ومن خلال النقاط السابقة يمكن الحد من حدوث جرائم التحرش والاستغلال الجنسي بشكل عام».

نظرة المجتمع

أمام الجد والحزم الملموسين من قبل الجهات المعنية في التعامل مع قضايا واتهامات التحرش، وأمام الحرص على الشفافية في الإعلان عن القبض على المتحرشين والتحقيق معهم، خصوصا في جرائم التحرش التي تتصدى لأخبارها مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن بعض الفتيات ما زلن يتجنبن اللجوء إلى القانون، أو المضي في الإجراءات القانونية والشكوى على من يتعدى عليهن ويتحرش بهن خوفًا من نظرة المجتمع لهنّ.

تقول فتاة تعرضت للتحرش لـ«الوطن» «واجهت تحرشا بدأ بالنظرات في مكان عام، ثم بعدها قام المتحرش بإعطائي باقة ورد، تحمل بطاقة مكتوب فيها رقمه واسمه، وتجرأ وحاول لمسي، فصرخت بصوت عال ليفر هاربا».

وأضافت «كنت أرغب في الإبلاغ عنه، لكني وجدت تعليقات مُحبطة ممن حولي، مثل ـ المكان ليس فيه كاميرات مراقبةـ، وـ لن يشهد معك أحد من الذين يعملون في المحلات فهم من المُعتاد أن يتعاونوا ليحموا بعضهم بعضا».

وأضافت «خشيت كذلك أن تطول الإجراءات القانونية، ولا أستطيع الاستمرار، وقد سمعت ولست متأكدة من المعلومة من أن تسجل قضية ترصد في حسابها في أبشر، وقد خوّفني كثيرون من أنه قد يعلم المجتمع أن للفتاة قضايا من هذا النوع بالمحاكم».

ولكنها في نهاية الحديث، قالت «الآن أنا نادمة على ترددي حينئذ، وليتني قمت برفع شكوى!».

بدورها، ذكرت إحدى الفتيات أنها تعرضت لتحرش لفظي في مكان عام برفقة صديقاتها، من مجموعة شباب صغار السن، وتقول «على الرغم من أننا حاولنا تجاهل التحرش إلا أن ألفاظ المتحرشين زادت حدة خصوصا حين قامت إحدى الفتيات بسكب القهوة عليهم، ليردوا عليها بنفس الأسلوب، فقررنا طلب الأمن، فيما هرب المعتدون».

وعند سؤالها عن سبب عدم رفعهنّ شكوى على المتحرشين، قالت «ذهبنا للحصول على تسجيلات الفيديو من كاميرات المراقبة للمحل الذي يقابل موقع الحادثة، ولكنهم رفضوا».

وتابعت «يصعب أن تذهب الفتاة إلى مركز الشرطة وأن تزج باسمها في قضية تحرش، وحينئذ سيتحدث الناس عنها».

مجتمع ذكوري

في المجتمعات الذكورية ما زالت كثير من الأفكار لا تعيب الرجل في مسائل التحرش، وترمي باللائمة على الأنثى، بحجة أنها لو لم تخرج لما تعرضت للتحرش، وغالبا ما تفضل الفتاة نشر مقاطع للتحرش وتترك البقية للجهات المعنية، بدل أن تتقدم بشكوى رسمية، على الرغم من أن شكواهن تتيح لهن الإثبات بشكل أفضل.

وحرص القانون السعودي على التشهير بالمتحرش في بعض العقوبات، لأنه أدرك أن العقوبة الاجتماعية قاسية بقدر القانونية في هذا الجانب، وربما أشد، لكن كثير من القانونين يحذرون من نشر المقاطع بدل الشكاوى، لأن بعض النشر قد يدخل في بند التشهير، وهذا تطاله عقوبات لأن النظام يجرم من يصور وينشر لأنه لا يستند إلى أمر قضائي.

وطالب كثيرون بالعمل على التوعية وتصويب اعتلالات الثقافة، مؤكدين أن الحياء مطلوب من الرجل والمرأة، وأن تعزيز منظومة الأخلاق، مع تغليظ عقوبة المتحرش، والتشهير به قد تكون من عوامل الردع المهمة للتحرش، مع الإشارة إلى أن التشريعات ليست الرادع الوحيد، فهناك كذلك رادع ديني واجتماعي، إضافة للدور التقويمي الذي تقدمه الأسرة.

وعلى الرغم من أن ضحايا التحرش قد يكونون من الذكور والإناث على حد سواء، فإن الواقع يبين أن الإناث أكثر عرضة له، وهن يتأثرن به نفسيا بدرجة أشد، وقد يخلف لديهن آثارا سلبية تتمثل في مشاعر الخوف والاكتئاب ونوبات الفزع والرعب، وفي قدرتهن على التكيف الاجتماعي في العمل والتكيف العاطفي مع الأسرة، وحتى التحصيل العلمي.

مؤازرة مجتمعية

قاد بعض المجتمعات حملات ومبادرات عدة لتشجيع الفتيات على توثيق حالات التحرش وكسر صمت الشكوى ودعم الضحايا وتغيير نظرة المجتمع للمتحرش بها، وتقديم الدعم النفسي والمجتمعي للضحاي. وتبدو مثل هذه الأدوار مطلوبة، لتحقيق التآزر بين نظرة المجتمع وقوة القانون بما يضمن الحد من هذه الجرائم.

التحرش في القانون السعودي

«كل قول أو فعل أو إشارة ذات مدلول جنسي، تصدر من شخص تجاه أي شخص آخر، تمس جسده أو عرضه، أو تخدش حياءه، بأي وسيلة كانت، بما في ذلك وسائل التقنية الحديثة».

مواد في نظام مكافحة التحرش

المادة الثالثة:

1- لا يحول تنازل المجني عليه أو عدم تقديم شكوى دون حق الجهات المختصة -نظاماً- في اتخاذ ما تراه محققاً للمصلحة العامة، وذلك وفقاً لأحكام نظام الإجراءات الجزائية، والأنظمة الأخرى ذات الصلة.

2- لكل من اطلع على حالة تحرش إبلاغ الجهات المختصة، لاتخاذ ما تراه وفقاً للفقرة رقم (1) من هذه المادة.

المادة الرابعة:

1 - يلتزم كل من يطّلع - بحكم عمله - على معلومات عن أي من حالات التحرش؛ بالمحافظة على سرية هذه المعلومات.

2 - لا يجوز الإفصاح عن هوية المجني عليه، إلا في الحالات التي تستلزمها إجراءات الاستدلال أو التحقيق أو المحاكمة.

المادة الخامسة:

1- يجب على الجهات المعنية في القطاع الحكومي، والقطاع الأهلي، وضع التدابير اللازمة للوقاية من التحرش ومكافحته في إطار بيئة العمل في كل منها، على أن يشمل ذلك:

أ- آلية تلقّي الشكاوى داخل الجهة.

ب- الإجراءات اللازمة للتأكد من صحة الشكاوى وجديتها وبما يحافظ على سريتها.

ج- نشر تلك التدابير، وتعريف منسوبيها بها.

2- يجب على الجهات المعنية في القطاع الحكومي والقطاع الأهلي مساءلة أي من منسوبيها -تأديبيا- في حالة مخالفته أياً من الأحكام المنصوص عليها في هذا النظام، وذلك وفقاً للإجراءات المتبعة.

3 - لا تخل المساءلة التأديبية التي تتم وفقاً لهذه المادة بحق المجني عليه في التقدم بشكوى أمام الجهات المختصة نظاماً.

عقوبات المتحرش

ـ السجن مدة لا تزيد عن سنتين

ـ غرامة مالية لا تزيد عن 100 ألف ريال

ـ إحدى هاتين العقوبتين

ـ السجن مدة لا تزيد عن 5 سنوات، والغرامة لا تزيد عن 300 ألف ريال، أو إحداهما في:

1ـ حالة العود (التكرار)، أو في حالة اقتران الجريمة بأي مما يأتي:

أ- إن كان المجني عليه طفلاً.

ب- إن كان المجني عليه من ذوي الاحتياجات الخاصة.

ج- إن كان الجاني له سلطة مباشرة أو غير مباشرة على المجني عليه.

د- إن وقعت الجريمة في مكان عمل أو دراسة أو إيواء أو رعاية.

هـ- إن كان الجاني والمجني عليه من جنس واحد.

و- إن كان المجني عليه نائماً، أو فاقداً للوعي، أو في حكم ذلك.

ز- إن وقعت الجريمة في أي من حالات الأزمات أو الكوارث أو الحوادث.

عقوبات التحريض والشروع والبلاغ الكيدي

1- يعاقب كل من حرض غيره، أو اتفق معه، أو ساعده بأي صورة كانت، على ارتكاب جريمة تحرش؛ بالعقوبة المقررة للجريمة.

2- يعاقب كل من شرع في جريمة تحرش بما لا يتجاوز نصف الحد الأعلى للعقوبة المقررة لها.

3- يعاقب كل من قدم بلاغاً كيديًّا عن جريمة تحرش، أو ادعى كيداً بتعرضه لها، بالعقوبة المقررة للجريمة.