كان الخط حلية، وبري قلم «البوص» ثقافة، وآثار الحبر في جيب الثوب من كمال التعليم! على أن تعلم الخط لا يخلو من أثر اقتصادي، فدواوين الحكومة- قبل معرفة الآلات الكاتبة- ووكالات التجار، وكتبة العرائض «العرضحال» = كل هذه الأعمال توجب على صاحبها أن يكون مجودا للخط، إن لم يكن خطاطا ماهرا، فإذا تمهر التلميذ أو الطالب في درس «مسك الدفاتر»، ففرص عمله في وكالات التجار وحوانيت الباعة أوفر وأعظم.
قال أحمد السباعي (1323-1404هـ) في ترجمته الشخصية أيامي: إن أباه قال له، وهو لا يزال تلميذا: «يا واد! تلاتة حاجات تخليك سيد الناس: قطة القلم، ولطعة المهر (يعني الختم)، واستقامة السطر»، فإذا طوفنا في مذكرات الرواد، وفي كتب السير والتراجم، ألممنا، بعض إلمام، بطرف من عناية هذه الناحية من بلادنا بصنعة الخط، واستطعنا أن نحصي من أسماء الخطاطين أسرا وأفرادا، نعرف منهم: فرج الغزاوي– زمن الشريف عون الرفيق– وابنه سليمان الذي امتد به العمر حتى أدرك عهد الملك عبدالعزيز، وإبراهيم الخلوصي، وعبدالقادر توفيق شلبي، وعبدالحق رفاقت علي العثماني، ومحمد سعيد حلمي.
فإذا جزنا تلك الكتب والفصول كان من مآثر تراثنا الثقافي محمد طاهر الكردي المكي الخطاط (1321-1400هـ)، وحسبه أنه ترك لنا تاريخا جليلا، يعنيني منه، الآن، ثلاثة أمور: أولها أنه حاز درجة (الدبلوم) من مدرسة تحسين الخطوط العربية الملكية بمصر، سنة 1344هـ = 1925م = وثانيها أنه أصدر في عام 1358هـ = 1939م كتاب تاريخ الخط العربي وآدابه، وقال في وصفه «هو كتاب تاريخي اجتماعي أدبي مزين بالصور الخطية والرسوم الفتوغرافية»، وهو معدود، اليوم، في تراث هذا الفن، ليس في بلادنا، وحسب، بل في الوطن العربي كله = وثالثها وأجلها أنه كتب بخط يده «مصحف مكة المكرمة»، وكان أول مصحف يخطه خطاط من أبناء هذه البلاد، وطبع، عام 1369هـ، في مطبعة أنشئت لهذا الغرض، هي شركة مطبعة مصحف مكة، في كلام مفصل واسع محله الجزء الثاني من كتاب أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة لمحمد علي مغربي.
وفي كتاب تاريخ الحط العربي وآدابه للشيخ محمد طاهر الكردي كلام مبسوط في تاريخ الخط العربي ونشأته، فإذا أتم هذا القسم أطنب في الحديث عن «صنعة الخط»، أنواعه، وأقسامه، وأعلامه. ولم يخل الكتاب، وهذا دأب الثقافة العربية القديمة، من أن يطلعنا الكردي على شيوخه في هذا الفن، وله في ذلك سندان، سند تركي، وسند مصري، وكلا السندين يرتفع إلى الحسن البصري- رحمه الله- فالإمام علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- وزاد فأتحفنا فقرأنا سند شيوخه المصريين منظوما في أرجوزة، جاء في مفتتحها
فإن ترم معرفة السند في تلق فن الخط حتى تقتفي
فقد أخذت الخط عن أفاضل خيار أهل الفن والأماثل
بمكة الشيخ الجليل الحاوي أعني سليمان فرج غزاوي
لكن أخذت جل فن الخط كذلك التذهيب أي بالضبط
عن كاتب المصحف للمليك (فؤاد) المرحوم من مليك
وأثبت، بعد ذلك، جدولا عاما، على حروف المعجم، لأسماء الخطاطين منذ بدء الإسلام حتى زمن الكتاب، ثم عاد فاختص خطاطي الحجاز، وعددهم ثلاثة وثلاثون خطاطا، ممن أدركهم أو عاصرهم، بجدول آخر، وأفرد «طبقات الخطاطين وتراجمهم»، في تاريخ الإسلام، بفصل، أتبعه بآخر بديع دعاه «طبقات خطاطي الحجاز»، ترجم فيه لاثني عشر خطاطا حجازيا، نخرج منه وقد ألممنا بتاريخ هذا الفن في العصر الحديث، في الحجاز، عامة، وفي مكة المشرفة، خاصة، فمبحث عن «طبقات أشهر الخطاطين في عصرنا»، قبل أن يختتمه بـ«فوائد عامة» في علامات الترقيم، وفنون الخط، وأدوات الكتابة، وآداب كتابة القرآن الكريم.
كان كتاب محمد طاهر الكردي من تراث هذا الفن، وكان يدرك مشقة ما ندب له، ويكفيه أنه أنفق فيه ثلاث سنوات، وهو يبحث وينقب في خزائن الكتب، كدار الكتب العربية ومتحفها، ومكتبة الأزهر، ومكتبة البلدية بالإسكندرية، وكان، بكتابه هذا، رائدا وسابقا، ويكفيه أنه وصل المملكة العربية السعودية، وهي تخطو في سنواتها الأولى، بهذا الفن العربي الجميل وتراثه.