لم تكن التغريدات التي أطلقها وزير الدولة السعودي لشؤون الدول الإفريقية أحمد القطان، في الثاني من مارس الحالي، مطالبا فيها بإصلاح جامعة الدول العربية، سوى حلقة جديدة من سلسلة مطالبات متواصلة أطلقها كثيرون وتناولت الشأن نفسه، من بينهم مسؤولون رسميون كوزير الخارجية الجزائري صبري بوقادوم، ورئيس مجلس النواب المغربي الحبيب المالكي، إضافة إلى عشرات الأبحاث والدراسات المتخصصة، ومئات المقالات الإعلامية، وآلاف الكتابات التي تناولت وضع الجامعة، وأقرت بالإجماع أنها باتت منظمة خارج الوقت، على الرغم من أنها أقدم المنظمات الدولية تأسيسا، حيث أنشئت في نفس عام إنشاء الأمم المتحدة 1945.

أداء لا وجود

يجمع كل منتقدي الجامعة العربية على أن مشكلتها، مشكلة أداء، وليست مشكلة وجود، إذ ما زال يمكنها تقوية أواصر العلاقات الثقافية والتجارية والسياسية والأمنية بين الدول الأعضاء، وما زالت الاتفاقيات التي انبثقت عن البروتوكول التأسيسي لها مهمة، سواء للدفاع المشترك أو المساواة القانونية أو دعم التبادل والتعاون الاقتصادي أو غيرها.

لكن هذه المنظمة التي تعيش عامها الـ76 بدت اليوم مترهلة كعجوز، فتراجع دورها دوليا، وتواضع تأثيرها إقليميا، وباتت أقرب للكيان الشكلي الذي لا تؤثر قراراته مطلقا عالميا، حتى كاد دورها ينحصر في الشجب والندب، وهو دور هش لا يليق بمنظمة سمحت لكل المنظمات الإقليمية الأخرى مثل الاتحادين الإفريقي والأوروبي وغيرهما بأن تتجاوزها.

وتعكس أشياء كثيرة أن مشكلة الجامعة هي مشكلة أداء بالدرجة الأولى، وهو ما كشف عنه القطان وآخرون غيره، فهي تضم 25 منظمة عربية متخصصة تابعة لها، لكنها جميعها بلا تأثير، كما أنها عقدت 44 قمة عربية منها 11 قمة طارئة، و4 قمم اقتصادية، لكن أيا منها لم يثمر قرارا مؤثرا عالميا، وحتى قطع النفط عن إسرائيل في حرب 1973 لم يكن قرارها وإنما كان قرارا سعوديا دعمته دول الخليج والدول العربية.

ويعكس عجز الجامعة عن لعب دورها في حماية سيادة الدول العربية المنتهكة من قبل قوى إقليمية وعالمية ضعف أدائها، وهو ما يتوازى مثلا مع عجزها عن حل الخلافات العربية ـ العربية بطريقة منسجمة مع التوجهات العالمية وبما يحترم سيادة الدول الأعضاء، كما تضاءل تأثيرها في تعزيز تأثير السلع الإستراتيجية العربية التي تمتلكها الدول العربية على نحو فردي مثل النفط السعودي والفوسفات المغربي والزراعة المصرية وغيرها، وهي سلع تمنح هذه الدول قوة إضافية، كما أن المنظمة التي يفترض أن يمتد تأثيرها على 13.5 مليون كم مربع ويعيش تحت كنفها 400 مليون نسمة تبدو أعجز من أن تستخدم هذه المزايا كأسلحة لمصلحتها ومصلحة أعضائها.

وبدلا من ذلك كله، عجزت حتى عن أن تقيم سوقا عربية مشتركة، أو أن تطلق عملة موحدة، أو تعزز الاستثمارات العربية المتبادلة.

نفور من المسؤولية

في أكتوبر الماضي خضعت الجامعة لامتحان صعب، تمثل في اعتذار 6 دول (قطر وجزر القمر والكويت ولبنان وليبيا) عن تولي الرئاسة الدورية لمجلس الجامعة على مستوى وزراء الخارجية، وهي الرئاسة التي شغرت باعتذار فلسطين عن استكمال الدورة الحالية التي تنتهي في مارس الحالي.

الرفض العربي السداسي جاء لعدم الرغبة في تولي رئاسة منقوصة لمدة زمنية قصيرة جدا، (نحو 5 أشهر فقط)، وفسر مراقبون هذا العزوف بأنه يعكس تراجع دور الجامعة إقليميا وعالميا، مع اتساع الخلافات العربية البينية حول قضايا رئيسية أبرزها الصراع العربي-الإسرائيلي، وأزمات سورية، واليمن، وليبيا، والعلاقات مع تركيا، وإيران، خصوصا مع افتقار الجامعة للتصويت الديمقراطي الحقيقي لاتخاذ قراراتها التي تأتي محكومة بمدى التوافق، وإلى غياب دورها في التعاون الاقتصادي أو الثقافي والاجتماعي بدلا من قَصر اهتماماتها على الأمور السياسية التي تشهد غالبا تجاذبات وخلافات.

ويرى مهتمون أن دور الجامعة العربية انتهى باندلاع ما يسمى «ثورات الربيع العربي»، حيث سمحت بالتدخلات من خارجها كمؤثر رئيس في أغلب الأزمات في الدول العربية، حتى أنهم توقعوا انتهاءها بشكل رسمي خلال عامين من الآن.

محاولات إصلاح

مقابل منتقدي الجامعة والمتشائمين بانتهاء دورها نهائيا، يرى متفائلون أنها ما زالت ضرورة كقاطرة لإدارة العمل العربي لأنها ما زالت تمثل الحد الأدنى للتوافق ومنصة التحاور، ويرون أنه لأهمية ذلك شهدت كثيرا من محاولات الإصلاح عبر تبني مبادرات لتعديل ميثاقها، وتعديل أسلوب اتخاذ القرار فيها، ودعم مؤسساتها ماليا وسياسيا.

ولعل مطالبات القطان ومن سبقوه والتي ركزت على محاربة الفساد في الجامعة، والتقارير الإعلامية التي كشفت واقع هذا الفساد، تصب جميعها في خانة الإصلاح المنشود، خصوصا أن المحسوبيات والشللية نخرت عميقا في جسد الجامعة، ومن هنا جاءت مطالبة القطان بعدم السماح ببقاء رؤساء البعثات لأكثر من 4 سنوات، وأن يتم إنهاء خدمات الأصدقاء الذين تجاوز سنهم 65 عاما لإتاحة الفرصة لغيرهم لتولي هذه المناصب، مؤكدا أنه يجب إعادة النظر في بعثات ومكاتب الجامعة في الخارج التي بلغ عددها 25 بعثة بلا جدوى حقيقية، خصوصا أنها تستنزف ثلث ميزانية الجامعة أي بمعدل 20 مليون دولار، ويذهب 95% منها للرواتب والإيجارات، و5% فقط للأنشطة.

وتترهل المنظمة وتئن بـ400 موظف يتقاضون 5 ملايين دولار سنويا، دون الحاجة إلى هذا الكم منهم، ودون أن يقدموا ما يوازيه، فيما يبقى منصب الأمين العام (الحالي والسابقون) وحده حكاية استثنائية، حيث بلغ متوسط ما يتقاضاه الأمين العام نحو 70 ألف دولار شهريا خلاف الانتدابات والسفريات، وهو ما يفسر استنزاف أكثر من 1.5 مليار دولار من ميزانية الجامعة على بعثات وموظفين وسط غياب الأنشطة الحقيقية.

أعلى من راتب الرئيس

في وقت بقي منصب الأمين العام للجامعة حكرا على مصر (بلد المقر)، بدا غريبا أن يتقاضى بعض موظفي الجامعة رواتب تفوق راتب حتى الرئيس المصري، فالأمين العام المساعد يحصل على 11 ألف دولار (188 ألف جنيه مصري)، ويحصل نائب نائب الأمين على 14 ألف دولار (227 ألف جنيه مصري) فيما راتب الرئيس المصري (45 ألف جنيه) شهريا.

واستكمالا لإشكالية الفساد، وفي وقت تقدم دولة المقر 20% فقط من ميزانية الجامعة يشغل موظفوها 80% من موظفي الجامعة.

إشكاليات من هذا النوع دفعت قمما ودولا عربية عدة للمطالبة بالإصلاح، منها قمة الجزائر 2005 وقمة الكويت 2014، وقمة الأردن 2017، ومنها دولة الجزائر التي طالبت في 2018 بالإصلاح، ثم أعادت في يوليو الماضي مطالبتها حتى وصل الأمر بوزير الخارجية الجزائري صبري بوقادوم حد انتقادها بشكل ناري، متهما إياها بالتواطؤ ضد «بعض» العرب، مؤكدا أنه «ليس هناك نية سياسية لإصلاح الجامعة».

وكانت الجزائر دعت إلى إصلاح جوهري لعمل الجامعة العربية، وكذلك تدوير منصب الأمين العام بين الدول الأعضاء، وفي 2018، عادت إلى طرح المطلب من جديد على لسان وزير خارجيتها عبدالقادر مساهل، بعد تسجيل عجز الجامعة في مواجهة أزمات المنطقة، وفرض حلول عليها من الخارج.

كما أكد رئيس مجلس النواب المغربي، الحبيب المالكي، أن الجامعة العربية تحتاج إلى «إصلاحات عميقة».

وقال المالكي «أوضاع العالم العربي ليست بخير، وجامعة الدول العربية تحتاج إلى إصلاحات عميقة حتى تستجيب لمتطلبات المرحلة»، دون توضيح ماهية هذه الإصلاحات.

وأضاف: «نؤمن بالقضية الفلسطينية؛ لأنها قضية إجماع وقضية مصيرية للعالم العربي، وتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية ضرورة حيوية لمستقبل النضال والمقاومة».

امتصاص المطالبات

لم تكن المطالبات المستمرة والمتكررة بإصلاح الجامعة مجرد صرخات في الفراغ، بل كثيرا ما طرقت أروقة الجامعة التي وجدت نفسها مضطرة للتعامل فعليا مع هذه المطالبات، وبعد عام 2005 ترأس الدبلوماسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي لجنة خبراء لإصلاح الجامعة، أعدت تقريرا وسلم للأمانة العامة للجامعة، لكنه بقي سريا ولم يفتح نقاش بشأنه.

وفي عام 2013 شكلت لجنة مفتوحة العضوية لإصلاح وتطوير الجامعة بناء على قرار صادر عن مجلس الجامعة على المستوى الوزاري تتكون من الدول الأعضاء والأمانة العامة للجامعة «المنسق».

وعقدت اللجنة أكثر من 13 اجتماعا على مستوى المندوبين الدائمين للدول الأعضاء في الجامعة، وكانت مهمتها إجراء تقييم شامل لما تم في إطار إصلاح وتطوير الجامعة، ورفع توصيات حول ما لم ينجز إلى اجتماع مجلس الجامعة على المستوى الوزاري.

وتولت اللجنة متابعة إنجاز 4 فرق معنية بتطوير وإصلاح الجامعة.

ويبدو أن وجود اختلافات في وجهات النظر والرؤى في كيفية معالجة عملية الإصلاح والتطوير سيجعل من عملية التطوير صعبة الحدوث، وصعبة الإنجاز.

وانبثق عن اللجنة 4 فرق يعنى كل منها بجزء من أجزاء التطوير، فترأست السعودية الجزء الخاص بمراجعة الميثاق وتطوير الإطار الفكري لمنظومة العمل العربي المشترك ليتماشى مع أولويات ومتطلبات المرحلة، بما في ذلك التطورات والتحديات التي شهدتها المنطقة بعد إنشاء الجامعة، ومن بينها ما يتعلق بمكافحة الإرهاب والتطرف وتعزيز وحماية حقوق الإنسان.

وتولى الفريق الثاني، وترأسته تونس، دراسة كيفية تطوير أجهزة الجامعة ومهامها، وترأست العراق الفريق الثالث ويعنى بالارتقاء بالعمل الاقتصادي والاجتماعي العربي المشترك، وتولى الفريق الرابع، برئاسة الجزائر، تطوير البعد الشعبي للجامعة من خلال دراسة دور البرلمان العربي والمنظمات المدنية في هذا الصدد.

هذا التعامل من الجامعة حيال محاولات الإصلاح التي ما زالت مستمرة من سنوات، يؤكد افتقادها للإرادة السياسية للتطوير، وهو ما قد يشكل معول هدم قد يأتي على آخر ما تبقى لها من حضور حتى لو كان شكليا، ويهدد فعليا بوصول احتضارها إلى مرحلة النهاية.

6دول أنشأت الجامعة

وهي: مصر والعراق والأردن ولبنان والسعودية وسورية في 22 مارس

1945: عام تأسيس الجامعة

5 مايو 1945: انضمت اليمن للجامعة

21دولة: صارت عضوة بالجامعة حتى 1977

1996: انضمت جزر القمر للجامعة وصارت دولها 22 دولة

أوجه قصور عمل الجامعة

غياب عن التأثير في القرارات العالمية

تركها التأثير في أزمات الدول الأعضاء للدول الأجنبية

عجزها عن لعب دور في حماية سيادة الدول العربية

عجزها عن حل الخلافات العربية ـ العربية

تضاؤل تأثيرها في تعزيز تأثير السلع الإستراتيجية العربية

عجزها عن إنشاء سوق عربية مشتركة

عجزها عن إطلاق عملة عربية موحدة

عجزها عن تعزيز الاستثمارات العربية المشتركة والمتبادلة

افتقادها للأسلوب الديمقراطي في اتخاذ القرارات

اعتمادها على التوافقات وحدها في اتخاذ قراراتها

ترهل إداري وفساد يستهلكان مقدراتها المادية

لديها 25 منظمة منبثقة بلا أدوار حقيقية

%95 من ميزانيتها تهدرها المرتبات والإيجارات

%5 فقط من ميزانيتها مخصصة للنشاطات

الحلقة الأولى

الحلقة الثانية