لا تشذ منظمة التجارة العالمية عن بقية المنظمات الدولية، فهي تشهد كما الأخريات صراعات حادة بين المبادئ المعلنة والتطبيق العملي، وتمارس فيها لعبة المصالح بشكل أوضح من غيرها، ما جعلها بحاجة إلى محاولات إصلاح جذرية تخرج بها من الجمود الذي تعيشه، والتهميش الذي يطالها، حيث باتت معظم الاتفاقيات التجارية الكبرى تتم خارج إطارها إما بشكل فردي بين دول بعينها، وإما بشكل مجموعات تنشأ هنا أو هناك وتبحث عن قواسم مشتركة لتحقيق مصالحها.

وتصادق النيجيرية أوكونجو إيويالا التي عينت مديرة للمنظمة بعد أن انسحب آخر مرشح منافس، وهو وزير التجارة الكوري الجنوبي يو ميونغ هي، وقد تولت منصبها ابتداء من مطلع مارس الحالي وستستمر فيه حتى أغسطس 2025، بالحاجة إلى هذا الإصلاح، حيث قالت في مقابلة تلفزيونية «هناك حاجة إلى إصلاحات عميقة لإعادة صياغة المنظمة وإعادة وضعها».

وتأسست منظمة التجارة العالمية عام 1995 بهدف تعزيز التجارة المفتوحة لمنفعة الجميع، وتعمل اليوم بأعضائها الـ164 (تضم كذلك 20 دولة مراقبة) لتتفاوض وتدير قواعد التجارة الدولية وحل النزاعات بين أعضائها الـ164، لكنها واجهت مطبات شديدة على الأخص في الآونة الأخيرة، حيث عملت بجهد شديد لمنع الخلافات التجارية بين الدول الأعضاء فيها، وعلى الأخص الولايات المتحدة والصين، كما بقيت دون مدير عام دائم منذ تنحي البرازيلي روبرتو أزيفيدو قبل أكثر من عام مما كان مقرراً له.

تحديات

حسب أوكونجو إيويالا تواجه المنظمة تحديات كبيرة ومنها ضرورة لعب دور أقوى في تقديم حلول لوباء كورونا صحيا واقتصاديا، وكذلك ضرورة تحقيق تعاف اقتصادي.

وفي أواخر عام 2019 واجهت المنظمة واحدة من أشد الأزمات في تاريخها القصير نسبيا، حيث تمَّ إيقاف نشاط هيئة الاستئناف التابعة لها، والتي حرمت من القضاة بسبب الضغوط الأمريكية.

ويعدّ إيقاف نشاط هيئة الاستئناف ضربة موجعة للمنظمة لأنه أفقدها قدرتها على استخدام أقوى أدواتها، فلم يعد بإمكان محكمة حل النزاعات التجارية بين الدول الاعتماد على هيئة الاستئناف التي كانت تسمح لها بالفصل في نزاع تجاري ما من خلال اتخاذ قرار مُلزم قانونياً للأطراف المعنية.

وجاء تعطيل الهيئة بانتهاء ولاية 6 من أعضائها الـ7 في ديسمبر الماضي، وعرقلت الولايات المتحدة التصديق على تعيين بدلاء عنهم، واشترطت الاتفاق أولا على مراجعة الثغرات التي توفر حماية لمنتهكي قواعد التجارة الحرة، وتتيح لهم الإفلات من المساءلة، كما أصرت على مطلبها المتعلق بإخراج الصين من قائمة الدول النامية، على أساس أنها أصبحت قوة اقتصادية كبيرةً لا يجوز أن تتمتع بالمزايا الممنوحة لهذه الدول.

تاريخ من الأزمات

توصف أزمات منظمة التجارة العالمية بأنها أزمات وجود لشدة عمقها وقوة تأثيرها على المنظمة ودورها، لكنها مرت عبر تاريخها بأزمات عدة، ففي عام 1999 أخفقت في مواجهة مشكلات لها علاقة بالبيئة والتأمين الاجتماعي والدول التي ستُضَحّي بسبب تحرير الأسواق الذي كان مقررا ومنظما من قبل منظمة التجارة العالمية لصالح التجارة الحرة والشركات متعددة الجنسيات.

ولم تنجح المنظمة منذ ذلك التاريخ بتحرير الأسواق، أو حتى إطلاق برنامج في هذا المسعى.

اتفاقيات بديلة

منذ بداية الألفية الحالية مالت الدول أو مجموعات الدول لإبرام اتفاقيات بينية بعيدا عن دور المنظمة، فعقدت أمريكا وكندا والمكسيك اتفاقا، وعقدت اتفاقيات تجارة حرة بين دول أمريكا اللاتينية عرفت باسم (السوق المشتركة لدول أمريكا اللاتينية الجنوبية) والاتحاد الأوروبي من جهة، وسويسرا (عبر الرابطة الأوروبية للتبادل التجاري) من جهة أخرى.

وشكلت هذه الاتفاقيات إقصاء للمنظمة التي تعاني اليوم أيضا من صعود قوي لدول مثل الصين والهند، وهنا برزت الحاجة أكثر إلحاحا لإصلاحات تمكن المنظمة من لعب دور أفضل في نظام متعدد الأطراف.

وجاء تأسيس المنظمة تاليا لاتفاقية الجات (الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة) التي تأسست عام 1948، والتي كانت تهدف لبناء نظام التجارة الحرة على نطاق عالمي من خلال الإزالة التدريجية للحواجز الجمركية، ونص ميثاق إنشاء اتفاقية الجات على إنشاء المنظمة الدولية التجارة، التي عانت منذ النشأة ومع التوترات بين القوى التجارية الكبرى، والخلافات بين الدول الناشئة واستمرار الفجوة بين الشمال والجنوب، كما لم تسجل أي تقدم منذ الأزمة المالية عام 2008 التي فضلت السياسات الحمائية، وهو ما أعطى صورة عن منظمة في طريق مسدود.

رؤية سعودية لإصلاح المنظمة

خاض مرشح المملكة لمنصب مدير عام منظمة التجارة العالمية، المستشار بالديوان الملكي، محمد التويجري، السباق الأخير للفوز بمنصب مدير المنظمة متسلحًا برؤية سعودية لإصلاح المنظمة.

وجاء ترشح التويجري في وقت ضعفت فيه المنظمة المعنية بتنظيم المبادلات التجارية إلى أقصى حد، خصوصًا بعدما كادت تقوضها هجمات مضادة تعددية للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، إضافة للأزمات الأخرى التي تعانيها.

ودعا التويجري خلال رحلة ترشحه إلى إجراء إصلاحات عاجلة، مؤكدًا أهمية أن تدار المنظمة بالأساليب الإدارية المعمول بها في القطاع الخاص.

وشدد التويجري على أهمية «تحديد الأهداف، والالتزام بالمواعيد النهائية، وإجراءات التنفيذ، ومؤشرات الأداء» معتبرًا أنها عناصر يأمل في الاعتماد عليها، حتى يتمكن الأعضاء من الحصول على نتائج ملموسة تتيح لهم قياس التقدم ومعرفة أسباب عدم التقدم أو من عدمه بالسرعة الكافية.

وشدد على أن «تحسين سير العمل هو العنصر الأهم من أجل استعادة مصداقية منظمة التجارة العالمية وتجاوز الحواجز السياسية التي تعيق عملها»، كما أبدى التويجري خلال ترشحه أمله أن تكثف منظمة التجارة العالمية من تعاونها مع المؤسسات الكبرى الأخرى متعددة الأطراف، مثل صندوق النقد الدولي.

متاعب جدية

تعاني المنظمة من كونها نظاما دوليا جامدا أمام المصالح المتعددة للأعضاء، والتي أدى تضاربها إلى تباطؤ ومنع إيجاد أي حل وسط، كما أظهرت الاتفاقات الثنائية التي تتكرر وتتجدد أن المنظمة عاجزة عن لعب دور يوثق التعاون ويعززه، وهو ما كشفه انتشار اتفاقات التجارة بين القوى الإقليمية.

كما لعبت المنافسة بين الدول الناشئة، والتنافس بين القوى التجارية الكبرى مثل أمريكا وأوروبا، وعدم التوافق بين أولويات العمل والقضايا المتعلقة بحماية البيئة، كما أن الحاجة إلى تبني الموافقة العامة للأعضاء حول كل موضوع وليس اتفاق للأغلبية في تعطيل دور المنظمة، فثمة استحالة أو شبه استحالة لاتفاق 164 على كل موضوع، وهو ما يحول المنظمة إلى ما يشبه المنتدى غير القادر على تنظيم العولمة.

كما تشهد المنظمة انشقاقات عدة في أطرافها من الأعضاء، ولعبت الأزمة المالية لعام 2008 دورا في ترجيح السلوكيات الحمائية على حساب الانفتاح الذي ترغبه منظمة التجارة، مما أدى إلى إضعاف مصداقية المنظمة.

في أغسطس 2018 تعرضت المنظمة لأزمة جديدة حين فرض الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب رسوما على واردات خارجية إلى بلاده من الصلب والألمنيوم بنسبة 25 % إلى 10 % على التوالي، وهي قرارات رأت مصادر إعلامية أنها تشكل أزمة في مسيرة التجارة العالمية، وتضع منظمة التجارة العالمية في مأزق لا تحسد عليه.

ولوح ترمب بأن أي قرار يتخذ ضد إدارته سيؤدي إلى انسحاب أمريكا من المنظمة، وبالمقابل أي قرار قد يتخذ لمصلحة واشنطن قد يدفع الأعضاء الآخرين إلى الخروج عن قواعد المنظمة لحماية مصالحهم القومية.

وفي أكتوبر الماضي رأى رئيس ديوان المحاسبة الروسي أليكسي كودرين، أن النظام العالمي يتغير بسبب الحروب التجارية المندلعة بين دول العالم، وظهور أسواق قوية جديدة.

وأوضح أن «مراكز النمو الاقتصادي العالمية تغيرت، والنظام العالمي يتغير بسبب الحروب التجارية وظهور أسواق قوية جديدة، مثل الصين ولذلك فإن منظمة التجارة العالمية تشهد أزمة كبيرة».

وأضاف، أن منظمة التجارة العالمية لم تتخذ قرارات مهمة منذ فترة طويلة، مشيرا إلى أن الحروب التجارية التي شنتها الولايات المتحدة تلحق ضررا كبيرا بالمنظمة.

وقال إن «أمريكا دافعت عن التجارة الحرة لعدة عقود، وهي الآن تقيدها وتخنقها. لقد عززت الصين قوتها، واليوم تشعر بكين بالثقة وتحتاج إلى أسواق جديدة لذلك تعمل على كسر الحواجز الحمائية والجمركية، لقد تغيرت مراكز النمو الاقتصادي في العالم».

كل هذه المتاعب تعارض مهمة المنظمة الأساسية المتمثلة بضمان انسياب التجارة بأكبر قدر من السلاسة واليسر والحرية، وهي المنظمة العالمية الوحيدة المختصة بالقوانين الدولية المعنية بالتجارة ما بين الدول، وبالتالي تؤكد أن إعادة هيكلة منظمة التجارة العالمية ضرورة لازمة، بما يمكنها من تحرير التجارة العالمية.

منظمة التجارة العالمية

- منظمة عالمية مقرها مدينة جنيف في سويسرا

- مهمتها الأساسية ضمان انسياب التجارة بأكبر قدر من السلاسة واليسر والحرية

- المنظمة العالمية الوحيدة المختصة بالقوانين الدولية المعنية بالتجارة ما بين الدول

- تأسست عام 1995

- تضم 164 دولة عضو

- تضم 20 دولة مراقبة

أبرز متاعب المنظمة

إيقاف نشاط هيئة الاستئناف التابعة لها

العجز عن تحرير الأسواق

ميل الدول لإبرام اتفاقيات بينية

تنشط الاتفاقات التجارية بين المجموعات

التوترات بين القوى التجارية الكبرى

الخلافات بين الدول الناشئة

استمرار الفجوة بين الشمال والجنوب

صعود تفضيل السياسات الحمائية منذ الأزمة المالية 2008

التنافس بين القوى التجارية الكبرى مثل أمريكا وأوروبا

عدم التوافق بين أولويات العمل والقضايا المتعلقة بحماية البيئة

انشقاقات عدة في أطراف المنظمة من الأعضاء

الحروب التجارية المندلعة بين دول العالم

ظهور أسواق قوية جديدة مثل الصين

الحلقة الأولى