كانت نقاط الحدود بمثابة الهاجس لكل سوري، حتى أن وزير الاقتصاد السوري الحالي محمد نضال الشعار الذي كان وزيرا في حكومات سابقة في عهد الأسد صرح قائلا: «كنت سابقا كلما عدت من مهمة أخشى أن أُعتقل على الحدود». لكنها اليوم باتت البوابة الأولى التي يرون فيها وطنهم بعين مختلفة ومتفائلة ومطمئنة.
يعيش السوريون الذين احتفلوا هذا الأسبوع بالذكرى الأولى لانتصار ثورتهم وسقوط الطاغية بشار الأسد، وهم متخمون الآن بالآمال، يستمتعون لأول مرة منذ أكثر من 60 عاما بمساحة حرية لم يكونوا قد تخيلوها، ويشعرون بالأمل القادم رغم الصعوبات اليومية التي يعيشونها، ورغم كثير من التربص المحيط بهم، سواء من بعض مواطنيهم الذين يتوجسون من السلطة الجديدة، أو من محيطهم الجغرافي، وعلى الأخص إسرائيل التي تدعم هذا التوجس وتغذيه.
تقول السيدة هيفاء، وهي ستينية «منذ سنوات طويلة لم أر دمشق بهذه البهجة». وفي حلب قالت السيدة لميس «نمنا على زمامير (أصوات أبواق السيارات المحتفلة) وصحونا على زمامير كأننا في زفة عروس»، وتتابع ضاحكة «ما بكم، كأنكم لم تعيشوا ذكرى تحرير من قبل».
يختلف السوريون، ويتصالحون، ويتناقشون، ويعترضون، ويتهمون بعضهم بعضا في منصات التواصل، لكنهم في الواقع اليومي المعاش مختلفون عنهم فيها، فلا يتعاملون واقعيا بتلك الحدة، حيث لا تظهر سردياتهم المتضادة بكل حدتها في احتكاكهم الواقعي اليومي، بل يغيّبون في هذا الاحتكاك ــ وعلى الأخص في العاصمة ــ تلك السرديات التي تختلف للحالة الواحدة حسب موقع كل منهم، وحسب انتمائه الطائفي، لكن الأمر لا يخلو من بعض التلميحات. تتذمر سيدة لم تعرف كيف تعبر بسيارتها الـBMW بين زحام سيارات اصطفت على الجانبين في شارع ضيق من شوارع «عين الكرش» القريبة من ساحة السبع بحرات في قلب العاصمة، وعلى الرغم من أنها تلقت بعض المساعدة من المارة لإرشادها إلا أنها واصلت التأفف قبل أن تنطلق، ليصرخ أحدهم: «نعم، ما عاد عاجبك شي، راح زمن الدلال»، مشيرا إلى أنها كانت ممن حظوا بكثير من الامتيازات في عهد النظام الساقط، ولذا لا يعجبها الحال الآن.
حكومة لا تنام
ينتقد سوريون كثر دون خشية أو مواربة موكبا حاشدا لمحافظ دمشق لأنه ضم سيارات فخمة كثيرة، وهم الذين كانوا في عهد الأسد يخشون حتى مناقشة شرطي مرور. وقبل ذلك انتقدوا أكثر من وزير في الحكومة دون أي تحرج، بل وخاطبوا وزراءهم بشكل مباشر بانتقاداتهم، وهذا يؤكد التحول الكبير الذي يعيشونه اليوم، فمن كان يتصور مثلا أن يقف الأمن السوري حاليا ليحرس مظاهرة ضد الحكومة شارك فيها علويون في الساحل، بعدما كانت المشاركة في مظاهرات معارضة للسلطة الساقطة تعني الاعتقال والتغييب والقتل في الماضي.
وفي وقت تعمل فيه الحكومة السورية بكل طاقتها وعلى مدار 24 ساعة يوميا لاستقطاب الاستثمارات، وإصلاح الأوضاع بالغة السوء التي خلفتها حكومات الأسد، تتواصل في أماكن عدة مثل السويداء والساحل ومناطق سيطرة قسد محاولات العرقلة، والتشكيك بكل جهد، وهو ما يلقي بظلال التوتر على بلد لا يزال يحاول أن يخطو أول خطوات التعافي.
التشكيك بما تفعله الحكومة ليس قاصرا على قراراتها الكبيرة، بل حتى على أصغر الأشياء، حتى أن الرئيس أحمد الشرع قال خلال شرحه لماذا احتفظ بنسبة الثلث في تعيين الأعضاء في مجلس الشعب «أردنا ونتيجة الاستقطابات الكبيرة أن نصحح أي خلل في نسب التمثيل في المجلس، فمثلا وجدنا أن تمثيل النساء قليل، وهذا سيجعلني أبادر لتعزيز تمثيلهن من خلال الثلث المعين»، وواصل ضاحكا «غدا سيقولون إن الرئيس نسونجي».. ونسونجي تعني في عرف السوريين الشخص الذي يميل أو يحابي النساء.
وجاء كلام الرئيس السوري ليشير إلى كم التربص الذي تواجهه الحكومة.
أفراح الشارع
جاء احتفال السوريين بالذكرى الأولى للتحرير من نظام بشار الأسد ليرد من حيث الزخم والعفوية وكثافة المشاركة داخل سوريا وحتى في كل مدينة وصلها السوريون في تركيا وأوروبا وغيرها بشكل حاسم، مؤكدا تمسكهم بحكومتهم، يقول أمجد «هذه الاحتفالات العفوية والشاملة جاءت فرحا بالتخلص من طاغية، ورفضا لكل دعوة انفصالية أطلقها أتباع الهجري وغزال غزال وقسد».
ويضيف «بعض هؤلاء من الأقليات ينتقدون الخلفية الدينية للحكومة، وهم يتبعون في الوقت نفسه دعوات انفصالية أطلقها الشيخ حكمت الهجري في السويداء، والشيخ غزال غزال لدى العلويين، وأتباع قسد في الشمال الشرقي من سوريا.. لا أدري كيف يفكر هؤلاء».
فاتورة بلا رشوة
يصطف محمد على نافذة لسداد فاتورة مياه بيته (رسوم العداد) الذي هجره منذ 11 عاما، يطلب منه الموظف بتعاون شديد أي فاتورة سابقة، رقم عداد، أو رقم هاتف، فيجد لديه فاتورة مضى عليها 13 عاما، يبحث الموظف، ويجد رقم العداد، ويقول له عليك سداد رسوم 48 ألف ليرة، فيعطيه محمد 50 ألفا، لكن الموظف يعيد له 2000 منها.
يحاول محمد ترك المتبقي للموظف كما اعتاد السوريون عند التعامل مع موظفي الخدمات الحكومية قبل سنوات، حتى الموظفون أنفسهم لم يكونوا يعيدون أي فائض، لكن الموظف يصر الآن على إعادة المتبقي، وبإلحاح شديد.
يتكرر الأمر نفسه لدى كوّة سداد فاتورة الكهرباء، الموظفون يمتنعون عن أخذ أي فائض، وهم الذين كانوا يخلقون ألف ذريعة لتعقيد الأمور والحصول على رشوة لحلها.
يعلق محمد «غابت الرشوة، والتكسب غير المشروع، ولذلك فإن كثيرين ممن كانوا يتكسبون من وظائفهم يتذمرون اليوم ويتهمون الحكومة اتهامات لا تتوقف».
صورة ليست وردية
لا تبدو الصورة وردية على الدوام، حيث بات الاستقطاب الطائفي مؤهلا لإشعال أزمات قاتلة، ففي مدينة حمص قتل رجل وزوجته، وكتب القاتل بدمهما عبارات طائفية أشعلت غضب عشيرتهما التي اندفع بعض أبنائها للانتقام بالتخريب والحرق، لكن الدولة تدخلت بشكل سريع، وطوّقت الأزمة، وكشفت أن القاتل حاول التمويه على جريمته بهذه الطريقة التي كشفت أن أمام الحكومة والمجتمع كثيرا من الألغام التي يجب نزعها.
ولا يقتصر الأمر فقط على التعامل مع الملفات الطائفية والمناطقية الشائكة، بل هناك أزمات أخرى تلامس الحياة اليومية للسوريين في كل مدنهم، تتعامل معها الحكومة كملفات متراكمة يتطلب حلها بعض الوقت، فمع سقوط النظام السابق اندفع كثير من السوريين إلى العودة إما نهائيا، أو حتى لزيارة ذويهم، فتدفقوا من مختلف أصقاع الأرض، وسمح لمن يرغب باستقدام سيارات حديثة دون رسوم جمركية، وبهذا تدفقت عشرات آلاف السيارات الحديثة مزاحمة القديمة المتهالكة، ومسببة اختناقات مرورية خانقة في مدن تعاني أساسا من الزحام وضيق الشوارع والبنى التحتية المتهالكة، فصار الأمر فوق الاحتمال، وتسبب بكثير من المشاحنات اليومية على المواقف وأفضليات المرور وغيرها.
ومع عودة كثيرين من المخيمات، ومن دول اللجوء والخليج، وجدوا بيوتهم مهدمة كليا أو جزئيا، ووجدوا أن القائم منها «معفش» (وهو مصطلح سوري يدل على البيوت التي نهبت أبوابها ونوافذها ومطابخها وخلاطاتها وتمديداتها وأدواتها الكهربائية وأحيانا حتى بلاطها وسيراميكها).
يقول رواد «لدي شقة في مدينة دوما التي تعرضت للحصار والتدمير، وجدتها متهالكة ومعفشة، حتى أسلاك الكهرباء نُهبت من داخل الجدران.. فاضطررت إلى إعادة إكسائها بالكامل، وتطلب الأمر نحو الـ10 آلاف دولار لتجهيزها».
ويتابع: «المشكلة ليست في الكلفة وهي كبيرة وليست بمقدور الجميع، بل في المعاناة، أنت مضطر للبحث عن ورش، ومضطر في ظل الضغط الكبير على إعادة الإكساء والبناء والتأهيل لتحمل الأعذار والتأخير، وتحمل الاستعانة بمهنيين متواضعين لسد الحاجة إلى اليد العاملة في قطاع الإنشاءات، وكذلك تحمل ارتفاع الأجور نتيجة ارتفاع الطلب على الورش».
الغلاء وأشياء أخرى
تحت نير أوضاع اقتصادية صعبة للغاية يعيش كثير من السوريين، ثمة غلاء فادح، وإيرادات متواضعة. يتقاضى طبيب عيون في العاصمة دمشق 100 ألف ليرة للكشف الواحد، (الدولار تقريبا 11500 ليرة)، ويتقاضى محل النظارات 750 ألفا مقابل نظارة واحدة، وتكلف وجبتا غداء لشخصين في مطعم معقول في حي باب توما شرق دمشق نحو 550 ألفا، ويرتفع المبلغ إلى 700 ألف وأكثر لمطعم في الطلياني وسط العاصمة.
تشتكي السيدة منى، وتقول «زوجي رجل كبير، تجاوز سن العمل، وأنا لست موظفة، ولدي طالبان بالجامعة. أجرة بيتي تقارب الـ100 دولار شهريا.. الأوضاع صعبة للغاية».
عملت الحكومة السورية بعد سقوط الأسد على تحسين رواتب العاملين التي لحقتها عدة زيادات، فبعد أن كانت لا تتجاوز الـ30 دولارا في أواخر عهد الأسد، وصلت الآن إلى نحو 150 و250 دولارا، لكن الأمر لا يزال ضاغطا في ظل سعر صرف الليرة المتدني، وتخطط الحكومة لزيادات بحدود 400%. مع ذلك تستمر معاناة الغلاء بلا توقف.
تحسن الواقع
تسلمت الحكومة الجديدة بلدا متهالكا، في كثير من المدن السورية كانت الكهرباء تنقطع أكثر من 20 ساعة وأكثر يوميا، وجاءت الحكومة الجديدة بوعود عريضة لتحسين واقع الكهرباء، وحددت نحو 6 أشهر ليكون التحسن ملموسا، لكنها صدمت بتهالك محطات التوليد، وشبكات التوصيل، وتراكم المخالفات وسرقات التيار، وعلى الرغم من أنها بدأت العمل جديا لتحسين هذا الواقع، وأوصلت فعليا ساعات وصول التيار إلى أكثر من 8 ساعات في اليوم، وفي بعض الأيام حتى 16 و24 ساعة، مستفيدة كذلك من دعم وفره أشقاؤها العرب، وفي مقدمتهم السعودية، إلا أن التحديات أمامها كبيرة، وهو ما يسعى المشككون إلى التركيز عليه، فيما يركز غالبية السوريين على أن الحكومة تعمل، لكنها تحتاج إلى مزيد من الوقت.
كذلك كان الحال بالنسبة لشبكة الاتصالات، فثمة معوقات كثيرة تعترض تحسن واقعها، حيث تعمل الحكومة اليوم على استقطاب شركات كبيرة للتنافس على تحسين واقع شبكات الاتصالات من بينها STC السعودية.
أفراح وثقة
لا تعد الصعوبات الاقتصادية جديدة على السوريين، لكن غالبيتهم يشعرون هذه المرة بالثقة بالحكومة، وكثيرا ما بادروا إلى التخاطب المباشر مع وزرائها، مقدمين مقترحاتهم، وموجهين انتقاداتهم التي قابلها الوزراء بالاستماع والإنصات والإجابة والتفاعل، وهو مستوى لم يعتده السوريون في تعاطيهم مع المسؤولين، ولذا فإنهم يبدون اليوم متفائلين جدا بالغد، ولذا جاءت احتفالاتهم بذكرى انتصار ثورتهم والتي عمّت معظم مدنهم وقراهم مفعمة بالعفوية والصدق.
يثق السوريون أنهم اليوم على بوابة مستقبل مختلف، لكنهم يدركون أن الطريق إليه ليس ممهدا وسهلا، فثمة معوقات، وثمة عراقيل كثيرة، وثمة ملفات ما زالت بحاجة إلى حلول، منها ملف السويداء الشائك، وملف قسد التي تستولي على مناطق فيها كثير من الثراء والثروات الطبيعية والجوفية بما فيها النفط، وملف العدالة الانتقالية ومحاسبة من أجرموا بحق السوريين على مدى سنوات طويلة، إضافة إلى ملفات تتعلق بالسلم الأهلي والتعايش، وطي صفحة الطائفية التي قد تكون من أشد وأصعب الملفات والتي تحتاج وقتا طويلا ربما يسهم في حله دوران عجلة الاقتصاد بسرعة أكبر.
مكاسب حققها السوريون خلال عام من التحرير
ـ مكاسب دبلوماسية كبيرة تمثلت بإعادة الانفتاح على المجتمع الدولي
ـ رفع العقوبات الاقتصادية الخانقة
ـ قدرة على توجيه الخطاب السياسي نحو المصالحة والانفتاح
ـ تحسن ملموس على مستوى الخدمات الحكومية
ـ توقيع كثير من الاتفاقيات والعقود وتطلع قوي لاستثمارات كبيرة
ـ تغييرات مهمة طالت حياة الناس لناحية توافر الوقود وسلع ومنتجات لم يكن استيرادها ممكنا
ـ بات التداول بالدولار شائعا بعدما كان محظورا
ـ زيادة الرواتب والعمل على مكافحة الفقر كممر لترسيخ الاستقرار
لكن رفع العقوبات لا يكفي وحده، ويتعين على السلطات اتخاذ خطوات كثيرة.
تحديات تواجه الحكومة السورية
ـ ترسيخ مؤسسات حكم فعالة
ـ البدء بإعادة بناء الاقتصاد المنهك
ـ تحقيق إنعاش سريع يلمسه المواطنون في حياتهم اليومية
ـ الحفاظ على وحدة البلاد وتوازناتها الداخلية في ظل انقسامات خطيرة
ـ ضمان الأمن والتعامل مع الأقليات وبناء الثقة بين المكونات المختلفة
ـ مواجهة مطالب الأكراد بصيغة حكم لا مركزي
ـ تفادي حرب أهلية شاملة قد تؤدي فعليا إلى تقسيم البلاد
ـ تنظيم الأمن يما يعزز نجاحها في ضمان استقرار نسبي
ـ معالجة الاقتصاد المستنزف وتأهيل المرافق الخدمية المترهلة
ـ معالجة النظام المالي المعزول عن العالم وتحسين أوضاع السكان الذين يعد غالبيتهم تحت خط الفقر
ـ معالجة الأطر الناظمة ومجموعة القوانين اللازمة للاستثمار والتي تبدو غامضة في جزئيات كبيرة
ـ تهيئة بيئة جاذبة للاستثمارات الخارجية والنهوض بقطاعات البنى التحتية والمرافق الخدمية
ـ توفير خدمات الكهرباء والتعليم والإنتاج الزراعي لإنماء المناطق المدمرة وعودة ملايين اللاجئين.