«طور سينين» في سراة عسير، وليس في الصحراء بين فلسطين وأرض وادي النيل، الجبل الذي شهد نزول الوحي على نبي الله موسى، عليه السلام، هذا ما يقوله الأستاذ الدكتور «أحمد بن سعيد قشاش» المتخصص في اللغة العربية والباحث في القضايا اللغوية، من خلال كتابه «أبحاث في التاريخ الجغرافي للقرآن والتوراة ولهجات أهل السراة» الصادر عام 2018، ضمن إصدارات النادي الأدبي الثقافي بمنطقة الباحة، حيث يكشف الدكتور لأول مرة، كما يقول، عن المسرح الحقيقي لأحداث قصص موسى، عليه السلام، وفرعون، وما تلا ذلك من أخبار بني إسرائيل.

وقد أثار الكتاب زوبعة وعواصف حادة، مما دفع الدكتور أن يطلب من خصومه «عدم محاكمته بمسلمات تقليدية»، وهذا ما يجعلني في هذه المداخلة والخاطرة العابرة أقع في «المسلمات التقليدية»، إن سمح لي الدكتور قشاش، والذي أحترم شجاعته، انتصارا لرأيه ومراداته الفكرية، فما يطرحه شديد الخطورة من الوجهة السياسية والحياتية والتاريخية، والوقوف بالعرض في شارع حركة التاريخ، فهو يحاول جاهدا زحزحة ثوابت، واستنبات حقائق قد لا تستقيم مع مجرى التاريخ، ومقاربة الخطاب العقلي والروحي في عصرنا المعيوش.

الكتاب يعتمد على الشواهد اللغوية والجغرافية والتاريخية، والمشترك العربي والعبري في «الضمائر، والنبات، والزراعة، والماشية، والألفاظ الجغرافية من القرآن الكريم والسنة»، وهذا ما جعل الدكتور غير قادر على الإفلات من المنهج اللغوي، الذي طبقه قبله «كمال الصليبي» في دراسته «التوراة جاءت من جزيرة العرب»، حيث وقع الصليبي ضحية لكثير من المزالق، والمتاهات، ونسف الثوابت التاريخية والعقدية، معضدا نظريته باللغة من حيث القلب والاستبدال والإمالة في الملفوظات، وتحولات الأحرف ومقابلاتها الكلامية، إلى جانب إيمانه المطلق بمصداقية التوارة المعاصرة ككتاب تاريخي، يمكن الركون إلى معلوماته وتاريخيته.

يقول المفكر اليهودي الصهيوني «سيجموند فرويد» في كتابه «موسى والتوحيد»: «إن توراة اليهود ليست هي التي أنزلت على نبي الله موسى، بل هي من تأليف أحبار اليهود، الذين عبدوا الإله يهوه، ولم يتبعوا فكرة الإله الواحد التي جاء بها موسى»، بل إن شريعة موسى الأصلية، لا يعرف عنها شيء، ولم يعثر لها على أي أثر، وغير معلوم بأي لغة كتبت، في حين أن التوراة المتداولة في الوقت الحاضر، كتبها الكهنة والأحبار اليهود، في فترة الأسر في بابل، بعد عصر النبي موسى بـ800 عام.

ومن أكبر المؤرخين الذين طعنوا في صحة التوراة «آدم كلارك» الذي أعلن صراحة بقوله: «وقعت في كتب التاريخ من العهد العتيق تحريفات كثيرة بالنسبة للمواضع والتأويل»، ويقول المؤرخ «جان ملز»: «اتفق أهل العلم على أن نسخ التوراة الأصلية قد ضاعت من أيدي عسكر بختنصر، وعندما ظهرت بواسطة عزرا ضاعت تلك النصوص مرة أخرى في حادثة أنتيبوكس»، وفي القرآن الكريم إدانة صريحة لما فعلوه بكتابهم، قال تعالى: «من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا»، ويقول تعالى: «فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به..»، الآية.

يقول فيصل حسون: قياسا على نظرية المقابلات اللغوية بين أسماء الأماكن الواردة في التوراة المزعومة، وبين أسماء أماكن تاريخية في جزيرة العرب، نستنبط تاريخا جديدا، وجغرافية جديدة للبلدان والشعوب والأمم، من مجرد المقابلة اللغوية، والتشابه والتماثل بين أسماء ومواقع وبلدان على امتداد العالم، أن نقول إن الأسكندر المقدوني، رغم الخلاف حول ذلك، هو مؤسس مدينة الأسكندرية المصرية، ترى من أسس الإسكندرية العراقية، والإسكندرية الإيطالية الصناعية، والإسكندرية في شمال أمريكا، إنني أربأ بالدكتور قشاش أن يقع فريسة وهم توراتي من خلال تعليلاته اللغوية، وهو العالم الرصين، والباحث العميق، حين قادته فحولته اللغوية، إلى حسم مصداقية التوراة، والإيمان بمحتواها، مما أوقعه في قبضة المخاتل من المعلومات، وخلط المفاهيم، والتعلق بالمنهج الأسطوري، وطغيان الاجتزاء المبتور.

وفي نهاية البحث المضني، يصر الدكتور قشاش على أن كل شواهده اللغوية والتاريخية والجغرافية تؤكد أن موطن التوراة ومسرح أحداثها كانت في تهائم منطقة مكة المكرمة، وسروات وتهائم عسير، والباحة، وجازان، كثيرة هي المواقع التي حاول الدكتور قشاش أن «يتورتها» بمقروئية صعبة، وغير قابلة للرجحان، كمعطى تاريخي وجغرافي، من خلال التماثل والمعالجة وغلواء الدلالة، والتأطير التجريدي الملتبس والزائغ مثل: وادي حلي بن يعقوب، وادي بقرة، أسير بن يعقوب، وادي رحب، وادي ريم، وادي قنا، صياد، سحر آل عاصم، ذم سنون، العريش في جازان أي العشة، قال تعالى: «وما كانوا يعرشون»، وعشرات المواقع الجغرافية.

أسأل الدكتور، ألم يلفت انتباهك الذكي ذلك الاعتساف المبتسر، البعيد لفظا ومعنى لكثير من المسميات مثل:

الفطيحة وتقرأ يفتح إيل، القابل وتقرأ كابول، عمه وتقرأ عمايو، هي موضع يقع في منحدرات رهمه غرب الطور بتهامة عسير، والعمى قرية في شرق سراة عبيدة، وغيرها كثير من مسميات منخفضة التصديق والاقتناع والمطابقة.

يقول الدكتور قشاش: إن موسى، عليه السلام، خرج ببني إسرائيل من أرض جاسان «جازان» إلى أرض الكنعانين «الكنانيين»، وكان يعيش ويتنقل مع قومه في سهول تهامة التابعة اليوم لمناطق مكة وعسير والباحة، وهي الأرض التي وعد بها إبراهيم، عليه السلام، من قبل وإليها كانت هجرته، وفيها كان مقامه، ومسرح رحلاته هو وذريته من بعده، إسماعيل وإسحاق، ويعقوب.

صديقي الدكتور: في هذه اللحظة التي أكتب لك هذه الخاطرة أشاهد أمامي فلما وثائقيا، يحكي عن «طور سينين» في جبل اللوز، أو جبل موسى، من خلال تحليل جغرافي حديث، معتمدا على عشرات المصادر والمراجع، غير العربية «أمازون دوت كوم»، والتي تؤكد أن الجبل يقع في منطقة «مدين» شمال غرب المملكة، يظهر فيه وادي عفال، أو وادي موسى «طوى» الوادي المقدس، وتبدو فيه آثار آبار موسى، ثم يعرض الفيلم منطقة «المتاهة»، التي لا تزال تحتفظ بهذا الاسم هي وكل المواقع حتى يومنا هذا.

وأخيرا كتاب الدكتور قشاش يستحق القراءة بهدوء مُسيج بالوعي والتأمل، والكفاءة المعرفية وقبول الاختلاف، فهو كتاب استثنائي من حيث الصدمة، وتحريك الحواس، لكاتب استثنائي من حيث الموسوعية وجبروت الوعي.