دائما عندما نناقش الجدل الحاصل بين العلمانية والدين، نجد أن الطرف العلماني يحتكر الحديث باسم العقلانية والطرف الديني يقف موقف التحفظ من العقلانية إن لم يكن العداء لها!

لم يسلم الكثيرون من الهجوم عندما كتبوا عن العلمانية، ولكني اليوم سأدخل بكم إلى بيت الدبابير، وسأناقشها من منظور أحاول فيه أن أفصل الواقع الذي نعيشه اليوم بين الجدلين. فالفيلسوف المصري زكي نجيب محمود في أحد كتبه الأخيرة «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري» يميز بين «الوقفة العقلية» التي تصدر عن التفكير المنطقي والسببية العملية و«الوقفة العاطفية» التي تصدر عن رغبات النفس وأذواقها الشعورية، ولقد اعتبر أن المنهج العقلي ضروري في تحصيل العلوم وبناء الدول وتخطيط الاقتصاد.

ولكن! حين يرفع الفريق العلماني شعارات الاستنارة ويتهم خصومه بالرجعية والظلامية والدوغمائية بل والتمسك بالخرافة، ويتهم الفريق المنافح عن الدين معارضيه بالاستهانة بالغيب والوحي وتقديم العقل على النص والرغبة في التحلل من القيم الأخلاقية والقواعد الشرعية، أين يذهب من يقف بالنصف بينهما؟ ومن سيكسر الحلقة المفرغة؟. فمفهوم العقلانية المختطف اليوم من فريق والمضطهد من فريق آخر يحتاج لاستنقاذ، ولن يمكننا أن نقوم بذلك دون تحليل فلسفي عميق للمفهوم.

ظهرت في فكرنا العربي في السنوات الأخيرة دعوات إلى العقلانية، ذهبت في اتجاهات عديدة، دعا بعضها إلى النقد العقلاني من المنظور الفلسفي أي إخضاع المسلمات والأحكام الجاهزة للمساءلة والشك، وذهب البعض الآخر إلى تطبيق النظرة العلمية الموضوعية على مختلف شؤون الحياة، ورأى فريق آخر أن العقلانية المطلوبة تكمن حاليا في تحرير ثقافتنا من الأوهام والأساطير من خلال تطبيق مناهج العلوم الإنسانية في نقد الثقافة السائدة. فـ«العقلانية بالفلسفة ليست مذهبا مغلقا يضم فريقا من الأنصار، مثلما الحال مع الماركسية أو الوجودية أو الليبرالية مثلا، بل هي نزعة ومنهج في التفكير ينحو إليه المفكرون والفلاسفة بل والفقهاء داخل منظوماتهم ومذاهبهم الفكرية أو الفلسفية أو الشرعية، مُولِين العقل مكانة محورية سواء في نظرية المعرفة أو في فهم العالم، أو -في حالة الفلسفة والفقه الإسلامي- في تحكيم الشرع والاجتهاد في فهم الوحي وتنزيله وتطبيق السنة، وتأصيل بعدهما الإنساني والاجتماعي فيما وراء سياقهما التاريخي».

السعودية اليوم، تركز على خطاب تحرير العقل وعلى مجابهة الجمود والتعصب والتطرف، من أجل الدفاع عن أفكار التسامح والاختلاف والحوار، فالأمر اليوم لا يتعلق بخيارات فلسفية نظرية، فالأفكار المجردة إن هي بقيت معلقة في الأذهان لن تؤثر في الواقع... فأين كان تأثير ابن رشد في المجتمع الأندلسي المغربي في عصره؟ ولماذا لم تؤد دعوته إلى التأويل العقلاني للنص الديني إلى نتيجة؟ ولماذا ظلت شروحه على كتب أرسطو مهملة إلى أن تلقفتها فكرة النهضة الأوربية؟

المفكر المغربي عبدالله العروي في بداية السبعينيات لاحظ في نقده للأيديولوجيا العربية أن الماركسيين العرب أخذوا من فلسفة ماركس جانبها الشعاراتي وتركوا عمقها العقلاني الذي هو ما تحتاج إليه الساحة العربية، ففشلوا فكريا وسياسيا. ومن هنا يمكن القول إن العقلانية العملية الإجرائية هي ما تحتاج إليه بلادنا اليوم، وذلك بتوفير الشروط الموضوعية للتفكير المنطقي والممارسة المخططة المدروسة والحوار الاجتماعي المتسامح، فالذين يراهنون على الاكتفاء بتدريس الفلسفة والمنطق لكي ينحاز المجتمع للعقلانية مخطئون، بل المطلوب هو أن تتحول الأفكار العقلانية إلى سياسات عمومية وممارسات عملية مطبقة.

التجربة الأمريكية الحديثة خير دليل على أهمية العقلانية العملية، فالآباء المؤسسون بنوا النموذج الأمريكي على قيم عقلانية منفتحة من خلال قوانين ونظم سياسية واجتماعية، ولم تسبق هذه التجربة حركة تنويرية أو نهضوية فلسفية على غرار ما حدث في أوروبا، بل كانت على الخط نفسه الذي اعتمده بناة النهضة اليابانية (ثورة الميجي الإصلاحية).

إن تحرير العقل هو التمسك بالعقلانية النقدية الموضوعية في حياتنا العملية وواقعنا الاجتماعي، وليس مجرد التبشير بالأفكار النظرية وأقوال الفلاسفة المحلقة في سماء الخيال والتجريد، فحرروا عقولكم وانتقدوا بموضوعية عقلانية عملية.