لا شك أن أزمة «سد النهضة» قد دخلت نفقا يكاد يكون مظلما بسبب فشل جولات المفاوضات المتتالية في إيجاد حلول وتسويات ترضي أطراف الأزمة الثلاثة، مصر والسودان وإثيوبيا، وهذا الوضع يهدد حياة الملايين من شعبي دولتين عربيتين شقيقتين هما مصر والسودان، وهو أمر لا يرضي أحدا، لذا فإن دورنا -كباحثين- يكمن في محاولة البحث عن حلول ومخارج من هذه المعضلة الإستراتيجية المعقدة.

بداية البحث عن حلول تبدأ من دور المجتمع الدولي، وتحديدا القوى الكبرى التي يفترض أنها تتحمل مسؤولية رئيسية في الحفاظ على السلم العالمي، وفي هذا الإطار يمكن القطع بأن هذه الأزمة التي تهدد بنشوب صراع عسكري في واحدة من أكثر مناطق العالم أهمية بالنسبة لهذه القوى، لا تحظى بالأهمية التي تستحق من جانب المجتمع الدولي، بل تكاد تكون غائبة تماما عن أولويات الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، وهذا الأمر يحتاج إلى تفسير ومبررات لأن هذه الدول لديها مصالح إستراتيجية ضخمة سواء في تلك المنطقة، أو مع أطراف الأزمة الثلاثة!.

الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسية، وكذلك الصين وروسيا لا يكاد يصدر عنها أي موقف بشأن التطورات المتسارعة التي تشهدها أزمة «سد النهضة»، وتنزلق بها نحو صدام عسكري وشيك، حتى إن بيانات «التعبير عن القلق» أو مجرد «إثبات الموقف» لم تصدر عن عواصم هذه الدول! .

ولا يمكن لأي مراقب متخصص الادعاء بأن هذه الأزمة لا تهم القوى الكبرى ولا تعنيها، ومن ثم فهي ليست ضمن أولوياتها، كما لا يمكن الادعاء بأن المجتمع الدولي لا يدرك مدى إلحاح هذه الأزمة المصيرية وعمق تأثيرها على الأمن القومي للدول الثلاث أيضاً. صحيح أن الولايات المتحدة في عهد الرئيس بايدن لا تولي الشرق الأوسط الاهتمام الذي كان يحظى به في السياسة الخارجية الأمريكية تاريخيا، لكن الأمر هنا لا يتعلق بأزمة محدودة النطاق والتأثيرات الجيواستراتيجية، بل بأزمة تهدد باندلاع صراع في جزء حيوي من العالم، الذي يفترض أن الرئيس بايدن قد وضع من بين أولوياته السعي لاستعادة النفوذ والهيبة الأمريكية بين جوانبه!.

البعض يقول إن بايدن ربما تأثر بفشل وساطة سلفه الرئيس ترامب في هذه الأزمة، ومن ثم لا يريد تكرار الفشل، وهو الذي يسعى جاهدا لتحقيق أي اختراق نوعي في ملفات السياسة الخارجية الأمريكية، كما يفعل في الحالة الإيرانية، بينما يرى فريق آخر أن تراجع وانحسار النفوذ الأمريكي لا يغري بايدن كثيرا بالمجازفة في البحث عن حلول لأزمة «سد النهضة»، وهو الذي يقف متعثرا أمام الأزمة اليمنية، التي تعاني الجهود الأمريكية فيها الجمود بسبب تعنت الحوثي ورفضه كل مبادرات التسوية المطروحة.

ثم لماذا تغيب روسيا والصين عن لعب دور مؤثر في هذه الأزمة؟ فموسكو تمتلك علاقات إستراتيجية قوية مع مصر ولها علاقات تاريخية مع دول القرن الأفريقي، ويهمها استئناف دورها العالمي، والشاهد على ذلك دورها المحوري المؤثر في سوريا وليبيا، كما لا يخفى على أحد أولوية القارة الأفريقية في حسابات التنين الصيني، الذي يمتلك أيضاً علاقات قوية مع أطراف الأزمة الثلاثة، ومن ثم يصبح التساؤل عن أدوار هذه القوى الكبرى منطقيا ومبررا على الأقل من باب فهم ديناميات العلاقات الدولية في المرحلة الراهنة. أعتقد ـ شخصياـ أن الرد على بعض هذه التساؤلات يكمن في طبيعة المرحلة الانتقالية التي يمر بها النظام العالمي القائم، فالعالم يعيش مرحلة تفاعلات تمهيدية وإرهاصات معقدة تمهد لولادة نظام ما بعد «كورونا»، وأعتقد أن بعض القوى الكبرى ربما تفضل ألا تنخرط بشكل مباشر أو غير مباشر في صراعات إقليمية أو الاضطلاع بأدوار وساطة قد تفشل أو تنجح بما قد ينال أو يؤثر سلبا في طموحاتها والمكانة التي تسعى إليها هذه الدول خلال «هندسة» توازنات القوى الجديدة في المرحلة المقبلة، فضلاً عن أن البعض الآخر قد يفضل تحميل الولايات المتحدة مسؤولية وعبء مثل هذه الأزمات، بما يظهر عجزها وفشلها في السيطرة على النظام العالمي، ويدفع بالتالي باتجاه تسريع وتيرة العمل على صياغة نظام عالمي يعبر عن تطلعات منافسي الولايات المتحدة.

ولعل نظرة واحدة على المشهد العالمي الراهن، تشير إلى مستوى العجز الذي تعانيه المؤسسات الدولية المعنية بالحفاظ على الأمن والاستقرار العالمي، سواء مجلس الأمن باعتباره الذراع الأممية المعنية بذلك، أو الأحلاف المؤثرة مثل «الناتو» وغيرها، ومن ثم فإن العالم يعيش مرحلة سيولة يصعب فيها الرهان على دور دولي مؤثر في احتواء الأزمات والحيلولة دون اندلاع حروب.

الحقيقة أن قادة الدول الثلاث «أطراف الأزمة» تعاني ضغوطاً إستراتيجية هائلة لأسباب مختلفة، ولكن الموضوعية تقتضي القول إن الضغوط الأكبر تقع على كاهل دولتي المصب «مصر والسودان»، سواء لأن الوقت لم يعد في مصلحتهما، أو لأن زمام الأمور بات بيد الطرف الثالث الذي يتحكم في مجرى المياه، وهذا الوضع غير المسبوق يتطلب حكمة وصبرا وتريثاً بالغاً، أزعم أن الأشقاء في مصر والسودان يمتلكان ناصيته، ولكن هذا لا ينفي أن الأزمة تزداد احتقاناً وتعقيداً، وأن الضغوط الشعبية الهائلة، في مصر تحديداً، تمثل عاملاً يجب أخذه بالاعتبار من جانب كل من يهمه الأمر، إقليمياً ودولياً؛ ومن ثم فإن تدخل القوى الكبرى بشكل عاجل وفاعل للعب دور إطفائي تحتاجه المنطقة بشدة، مسألة لا نقاش فيها لأن تفاعلات هذه الأزمة قد تخرج عن السيطرة في أي وقت ومن دون سابق إنذار. تجارب التاريخ القريب والبعيد تؤكد أن من السهل شن الحروب، لكن من الصعب إنهاؤها، وهذا لا ينفي أن قرار الحرب يكون في بعض الأحيان بديلاً لا مفر منه، خصوصاً إذا تعلق الأمر بمسألة حياة أو موت كالمياه، لذا فإن على المجتمع الدولي أن يتحرك قبل فوات الأوان.