على الرغم من كل التصريحات السياسية الرسمية التي يطلقها مسؤولون روس ويقررون فيها انتهاء علاقة بلادهم بالاتحاد الأوروبي، وتأكيد المحللين أن روسيا استبدلت التعامل مع الاتحاد كمنظمة وكتلة واحدة بعلاقات ثنائية مع كل من بلدانه على حدة وبشكل منفرد، فإن الوقائع تؤكد أن روسيا في حالة غزو جلي لأوروبا، ولكن بسلاح الجواسيس، وليس عبر الغزو العسكري التقليدي.

وإذا كانت الاستخبارات الروسية قد نشطت على مدى سنوات طويلة، وزرعت جواسيسها في كل المفاصل، وحققت نجاحات وضربات استباقية كثيرة، إلا أنها بدأت في السنوات الأخيرة ترسم خطا منحدرا بشكل مقلق، إذ كشف عام 2020 وحده النقاب عن كشف 14 جاسوسا روسيا في 7 دول أوروبية، هي: هولندا، وبلغاريا، وسلوفاكيا، وسويسرا، والنمسا، وفرنسا، وتشيكيا، وتمكن المعارض أليكسي نافالني من تسجيل مكالمة مع ضابط مخابرات روسي تكشف مؤامرة تسميمه، ويعد نافالني المعارض الأبرز للرئيس الروسي فلاديمير بوتين القادم بدوره من جهاز الاستخبارات (كي جي بي)، حيث كان أحد أقدم ضباطه، كما كان كذلك الرئيس السابق لجهاز الأمن الفيدرالي.

الدبلوماسية في خدمة الجاسوسية

تستغل روسيا أجهزتها الدبلوماسية لزرع الجواسيس، فتحت ستار من الوظائف الدبلوماسية في السفارات الروسية وملحقاتها حول العالم يعمل جواسيس كشف كثير منهم حتى ساد اعتقاد يؤكده رجال استخبارات عارفون بأن ثمة اختراقا لجهاز الاستخبارات الروسية نجم عنه سقوط هذا العدد الكبير من الجواسيس خلال عام واحد فقط.

في ديسمبر 2019 طردت هولندا اثنين من الدبلوماسيين الروس من أراضيها بحجة أنهما كانا يعملان جاسوسين، واتهمتهما باستهداف قطاع التكنولوجيا وتجنيد جواسيس محليين.

وفي يناير 2020، قبضت سويسرا على عملاء للمخابرات الروسية في دافوس، كانوا يحملون جوازات سفر دبلوماسية ويخططون لاستهداف المنتدى الاقتصادي العالمي.

أما أحدث الفصول، فكان توقيف إيطاليا في 31 مارس الماضي ضابطا بحريا إيطاليا في حالة تلبس بتهمة التجسس لصالح موسكو برفقة ضابط روسي تسلم منه وثائق "سرية".

ولم تشذ الحالة الأخيرة عن سابقاتها في ارتباطها بالدبلوماسية، فقد أعلنت إيطاليا طرد موظفين في السفارة الروسية في روما "على الفور" بسبب ضلوعهما في قضية التجسس واستدعت السفير الروسي.

تذمر روسي

شكل كشف الجواسيس وإحباط مخططات الاستخبارات الروسية خيبة أمل شديدة للمسؤولين الروس، خصوصا مع توالي أنباء طرد الدبلوماسيين الروس من البلدان التي يعملون فيها، وهو ما تعبر عنه موسكو بالتأكيد عن أسفها لطرد دبلوماسييها، لكن الأمر يكشف من جهة أخرى توترا شديدا في العلاقات بين روسيا وأوروبا.

من جهته، فرض الاتحاد الأوروبي جملة عقوبات على مسؤولين روس، ورأت موسكو في الأمر "تدخلا في شؤونها الداخلية"، وأعلن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أن "العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي قد وصلت لنهايتها".

وشهدت علاقات روسيا والاتحاد الأوروبي تدهورا شديدا منذ الأزمة الأوكرانية عام 2014، لكن العلاقات الثنائية مع دول الاتحاد ما تزال مستمرة، وأسلحتها حروب اللقاحات المستمرة، حيث وقع عدد من أعضاء الاتحاد الأوروبي عقودا ثنائية للحصول على لقاح "سبوتنيك في" الروسي، وتشمل هذه العقود المجر وإيطاليا وسلوفاكيا، فيما تفكر ألمانيا وغيرها في شرائه.

الاختراق

سقوط 14 جاسوسا روسيا في 2020، والقبض على آخر، أخيرا، في إيطاليا، أثارا تساؤلات كثيرة عما إن كان ما يحدث يمكن وصفه تراجعا في كفاءة جهاز الاستخبارات الروسية، حيث قال موقع "The Daily Beast" الأمريكي إن تكرار القبض على جواسيس روسيا في الخارج يؤكد أن هناك اختراقا لوكالة الاستخبارات الروسية، لكن هذا على الرغم من ترجيحه لا يعني أن كفاءة تلك الاستخبارات محل تشكيك، ففي ديسمبر 2020 كشف النقاب عن هجوم سيبراني روسي هائل ضد مواقع الحكومة والشركات الخاص الأمريكية، وكانت البراعة التشغيلية الروسية لتلك العمليات "على أعلى المستويات"، فقد استمرت 9 أشهر قبل اكتشافها، ورجح أن روسيا تشغل ضمن هجوماتها السيبرانية مجموعة مخترقين تدعى "الدب الدافئ Cozy Bear".

وتمتلك روسيا عدة وكالات للتجسس الخارجي، منها جهاز الأمن الفيدرالي الذي يمتلك قدرات سيبرانية أكبر بكثير من وكالة الاستخبارات الخارجية. كما يتمتع بموقع أفضل لتجنيد المخترقين، لأن الجهاز هو جهة إنفاذ قانون تحاكم على الجرائم السيبرانية. ويمكنه الاعتماد على خبرات الشركات السيبرانية الخاصة؛ لأنه الجهة التنظيمية للسوق السيبراني في روسيا، والجميع يعتمدون على الجهاز في الواقع.

ويستطيع الروس تنفيذ العمليات السيبرانية بكفاءة شديدة نظراً لقدراتهم التنظيمية؛ إذ يستطيعون الجمع بين الأهداف الاستخباراتية والخبرات التقنية لتنفيذ عمليات سيبرانية تُحقق الأهداف الاستراتيجية الأوسع".

مع ذلك، سقطت الاستخبارات الروسية، إذ نجح نافالني في خداع ضابط جهاز الأمن الفيدرالي ليكشف تفاصيل عملية محاولة قتله في محادثة هاتفية مسجلة، كما فشلت الاستخبارات العسكرية الروسية في محاولاتها قتل سيرغي سكريبال في مارس 2018.

ويبدو أن هذه الاستخبارات تعاني داء الفساد، والمحسوبية، والمنافسة بين الوكالات.

ولعل الاطلاع على الأوضاع المالية والاقتصادية والرفاهية التي يعيشها رؤوساء أجهزة الاستخبارات وأسرهم كفيل بتسليط الضوء على كم الفساد الذي تعانيه هذه الأجهزة، فمثلا يعيش

رئيس وكالة الاستخبارات الخارجية سيرجي ناريشكين، ونظيره رئيس جهاز الأمن الفيدرالي أليكساندر بورتنيكوف في بحبوحة اقتصادية لافتة، ففي يناير 2018، كشف موقع روسي أن بورتنيكوف يعيش داخل مقر إقامة فاخر على أطراف سانت بطرسبرج، وهو عقار غير مذكور في بيان الدخل الرسمي الخاص به.

وفي ديسمبر، نقل موقع "Mediazona" الروسي أن ناريشكين وعائلته يستمتعون بسخاء رجل الأعمال الأذربيجاني الثري غود نيسانوف، الذي يمتلك العديد من الفنادق ومراكز التسوق بموسكو؛ إذ طارت ابنة ناريشكين، فيرونيكا على متن طائرة خاصة مملوكة لنيسانوف إلى باكو للاحتفال بعيد ميلادها في يخت نيسانوف الفاخر. كما سافر آل ناريشكين بطائرة نيسانوف إلى النمسا في رحلة تزلج. وقبل بضع سنوات حصلت فيرونيكا، حين كانت في الـ23 من عمرها، على شقة كبيرة في موسكو قيمتها 1.4 مليون دولار بمساعدة رجل أعمال أذربيجاني مقرب من نيسانوف. وكان راتب والدها السنوي في ذلك الوقت 68 ألف دولار فقط.

إشادة بوتين

في 20 ديسمبر الماضي، وعلى الرغم من العام العصيب على الجواسيس الروس وأجهزة الاستخبارات، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حرص على الإشادة بالجواسيس الروس «الشجعان»، في الذكرى المئوية لتأسيس جهاز الاستخبارات الخارجية الروسي، وأمام مقر الجهاز في موسكو، حيث وضع إكليلا من الزهور عند قاعدة النصب التذكاري الذي تم تدشينه أمام مقر الجهاز.

وقال بوتين «أعرف جيداً أن هؤلاء أشخاص مخلصون وشجعان يؤدون خدمتهم».

اللافت أن إشادة بوتين لم تأتِ فقط بعد وقت من اتهام البعض لموسكو بوقوفها خلف هجوم شامل على مؤسسات الحكومة الأميركية سبق التصريحات بنحو الأسبوع، بل بعد عام من الإخفاقات المتمثلة في سقوط 14 جاسوسا، وهذا كم كبير لجهاز عرف على الدوام بقوته وتأثيره.

روس بيننا

كشف كتاب «روس بيننا» لمؤلفه غوردون كوريرا عن أن «الجواسيس.. سيكونون موضوعا مهما لفلاديمير بوتين».

وأضاف «ربما لن تكون روسيا عملاقا اقتصاديا، لكن التجسس هو أحد مجالاتها التي تتمتع فيها بقوة من الدرجة الأولى، وسيتم استغلاله كوسيلة لممارسة القوة والتأثير في جميع أنحاء العالم».

وكانت روسيا تستهلك سنوات لإعداد جاسوس وزرعه في الدولة المستهدفة مثل أندري بيزروكوف، الذي غير اسمه إلى دونالد هيثفيلد وعاش في أميركا الشمالية لمدة 23 عاماً، ورفضت زوجته وزميلته في الجاسوسية، إيلينا فافيلوفا، التي أطلقت على نفسها اسم آن فولي، أن تخضع للتخدير أثناء الولادة؛ لأنها كانت تخشى أن تهذي عقب التخدير أو خلاله باللغة الروسية، وليس الإنجليزية.

في عهد بوتين مالت أجهزة الاستخبارات لاستخدام أشخاص عاديين، طلاب، موظفين، دبلوماسيين، بأسمائهم الصريحة، لكن أوضاعهم تمكنهم من الحصول عما تريده الاستخبارات، حتى أن بعضهم لا يعرف أنه يعمل لصالح هذه الاستخبارات.

وفي عهد بوتين مالت الاستخبارات للتكيف مع العصر الرقمي، وقرصنة البريد الإلكتروني واستغلال وسائل التواصل الاجتماعي.

حرب مستعرة

لسنوات طويلة بدت أمريكا هي الأرض التي يركز الروس على استهدافها بجواسيسهم، لكن هذه النظرة التقليدية تغيرت في السنوات الأخيرة، فإلى جانب احتفاظ أمريكا بمركزيتها في محاولات الاستهداف الروسي، برزت دول أخرى صارت ميدانا للعمليات الاستخبارتية الروسية، وفي مقدمتها بريطانيا التي اتهمت موسكو رسميا بالتجسس وعمليات اغتيال داخل الأراضي البريطانية، ما خلق أزمات دبلوماسية بين البلدين.

وقالت لجنة برلمانية في بريطانيا «إن بريطانيا كانت أحد الأهداف الرئيسة في الغرب للاستخبارات الروسية».

ونبه تقرير بريطاني أعده مركز الدراسات «هنري جاكسون سوسايتي» إلى أن عدد الجواسيس الروس في البلاد، زاد بواقع 5 مرات تقريبا، مقارنة بما كان عليه خلال الحرب الباردة، ووصل إلى 200 عميل.

وفي بريطانيا تورطت الاستخبارات الروسية في اغتيال الجاسوس السابق سيرجي سكريبال (66 عاما)، وابنته يوليا حيث وجدا فاقدين الوعي على مقعد في مدينة سالسبوري، جنوب غربي إنجلترا، في 4 مارس 2018.

وسلطت هذه المحاولة مزيدا من الضوء على النشاط الروسي في بريطانيا، وقالت «فورين بوليسي» إن هذا التطور يشير إلى الدور المتنامي الذي تقوم به الاستخبارات العسكرية الروسية، لا سيما الوحدة «29155»، في «زرع الفوضى حول العالم، بما في ذلك اختراق المرشحة الرئاسية الديمقراطية السابق في الولايات المتحدة هيلاري كلينتون، ويعتقد أن الوحدة «29155» بدأت العمل منذ أكثر من عقد من الزمان، لكنها لم تعرف إلا بعد محاولة اغتيال الجاسوس سكريبال.

نشاط في الألب

كشفت التحقيقات في محاولة اغتيال سكريبال وابنته يوليا، وبحسب تقارير المخابرات البريطانية والسويسرية والفرنسية والأميركية عن 15 عنصرا روسيا من وحدة 29155 التابعة لوكالة الاستخبارات العسكرية الروسية، تنقلت داخل أوروبا من 2014 إلى عام 2018، وأنها مرت عبر منطقة جبال الألب في جنوب شرقي فرنسا بالقرب من الحدود السويسرية والإيطالية بما في ذلك مدن شاموني وإيفيان وآنماس، وكانت الوحدة نشطة أيضا في دول مثل بلغاريا ومولدوفا والجبل الأسود.

وقالت صيحفة «لوموند» الفرنسية، إن بعض العملاء جاءوا إلى فرنسا بشكل متكرر، والبعض الآخر لمرة واحدة أو مرتين، ما رجح اتخاذها منطقة لانطلاق عملياتهم، ونقلت عن مسؤول استخباراتي فرنسي رفيع المستوى قوله إن «الفرضية الأكثر ترجيحا هي اعتبار منطقة (أوت سافوا) الفرنسية قاعدة خلفية لجميع العمليات السرية التي تنفذها الوحدة 29155 في أوروبا».

دول شملها النشاط الاستخباراتي الروسي

كولومبيا

سلوفاكيا

هولندا

النمسا

بلغاريا

إيطاليا

تشيكيا

أمريكا

فرنسا

بريطانيا

عمليات ركز عليها الروس

اغتيال المعارضين في الخارج

اغتيال الجواسيس السابقين

التركيز على القرصنة الرقمية

محاولات اختراق البريد الإلكتروني ووسائل التواصل

استبدال الطريقة التقليدية لتوظيف الجواسيس باستخدام أناس عاديين

استخدام الدبلوماسية في النشاط الاستخباراتي

عيوب تعانيها أجهزة الاستخبارات الروسية

سقوط الجواسيس بكثرة يؤكد وجود اختراق

تعدد الأجهزة والتنافس بينها

استشراء الفساد

انتشار المحسوبية

14جاسوسا روسيا سقطوا عام 2020

7دول سقط فيها هؤلاء الجواسيس