قبل بضعة أيام توفى تشارلز جيشكي، مالك شركة «أودبي» للبرمجيات مخترع تقنية الـ«بي. دي. إف» فى 1993، التي أصبحت من أهم أدوات عرض المستندات، ونشر وتبادل المعلومات المقروءة إلكترونيا بشكل يحفظ للمادة التي يتم تبادلها الدقة والحجم المضغوط والتوافقية وجودة العرض والطباعة، وغيرها من الميزات.

ميزات الـ«بي. دي. إف» والفائدة الكبيرة التي يقدمها لنا ليست هي موضوعي ولا فكرة مقالي، ما أريد أن أكتب عنه هو ردود الفعل المتباينة بين السخط الكثير والعقلانية القليلة تجاه كل من ترحم على هذا الرجل في مواقع التواصل، وهذا هو موضوع استغرابي الذي يتجدد عند وفاة أي مخترع أو عالم قدم للبشرية فائدة في مجال معين، وخدم بعلمه الناس، ولكن يبقى عدم انتمائه للإسلام بابا واسعا لسبه والنيل منه، وفتح أبواب جهنم على مصرعيها لاستقباله بعد أن حرم عليه الناس جنات رب العالمين.

كمسلمة أعرف معرفة اليقين أن الدين عند الله الإسلام، وأن من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وأعرف أن شهادة «أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله» هي مفتاح أبواب الجنة، فهذه مسلمات لا جدال ولا نقاش فيها، ولكني في الوقت نفسه أعرف تماما أن المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، وأن الرحمة والغفران وتقرير مآل البشر بعد الموت بيد الله وحده لا بيد خلقه، وأن الخوض في سيرة الميت أو سبه أو أذيته بالقول أو الفعل محرمة حتى وإن كان غير مسلم، لأن ما بعد الموت حياة أخرى تفاصيلها كلها بيد الرحمن الرحيم وحده (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا).

نحن مسلمون، ننتمي لدين عظيم سمي «الإسلام»، لأنه دين السلام والرحمة والإنسانية، أنزله الله على محمد - عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - ليكون خاتم الأديان، وليتمم به مكارم الأخلاق التي يجب أن تكون لنا قدوة عليها نحن نسير، وعلى سنة نبينا ونهجه وعظيم خلقه ومن سيرته نتعلم، رسولنا الذي أكرم جاره اليهودي، وتعامل معه بالحسنى رغم أذيته له، نبينا الذي حثنا على الرحمة والرأفة والتأدب والود ومعاملة الغير بالحسنى ما لم يعتد علينا حتى لو لم يكن من ديننا، نبينا الذي جعل من خلقه الرفيع وأدبه الفريد نورا أضاء به الظلمات، لتكون إنسانيته عامل جذب استقطب إليه الناس، وعلى أساسها انتشر الإسلام في العالم.

أيعقل..!

أن تكون الأخلاق والرحمة وكف اللسان واليد عن فحش القول وبطش الفعل هي أساس تعامل رسول الرحمة في السلم والحرب، وفي كل تفاصيل الحياة، ونكون نحن غلاظ شداد ينفض من حولنا كل من التبس عليه فهم جوهر الدين السمح أو من يعيش التيه ويبحث عن هدى.

على عاتقنا تقع مسؤولية المحافظة على هذا الدين ونشره، ولن يكون ذلك ما لم نحترم الغير، ونتعامل مع الناس بإنسانية بعيدة عن الدين والعرق، ومقابلة الناس بالسلم ما لم يؤذونا، فنحن في بشريتنا متساوون، أما الهداية فهي من عند الله وحده (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ)، لذلك فليتنا نترك الخلق للخالق بصوابهم وخطأهم، سواء كان مسلما ظنناه نحن ضال والله أعلم بسره ونواياه، أو غير مسلم لم يعتد علينا من معتنقي الديانات الأخرى. ليتنا نتعامل معهم بإنسانية في حياتهم وباحترام بعد مماتهم، فنحن وهم بشر تحت رحمة الله الذي لا يملك مفاتيح جناته إلا هو سبحانه.

العمر قصير، وبناء هذه الأرض ونشر الخير فيها يحتاج إلى عمل كثير، والإرث الأخلاقي الذي سنورثه لأجيال بعدنا، تحافظ على البنية الإنسانية التحتية التي حثنا الله عليها، يحتاج منا إلى مجهود كبير، لصنع هذا الإرث القيمي الإنساني الأخلاقي، ومن ثم توريثه لأجيال يجب أن ننزع الغل من نفوسها، ونزرع بدلا منه الحب والسلام، وهذا المبدأ هو ما يجب أن يسير عليه البشر كافة بغض النظر عن الدين الذي ينتمون إليه، فالحياة ما عادت تتسع لمزيد من الكره والشر والقسوة.