من تراثنا وصل إلينا الكثير من أمثلة شعبية عن الموت والميت، وعندما قرأت العنوان "التشريح قبل الموت PreMortem"، الذي قدمه الدكتور جاري كلاين، أحد أشهر علماء البحث النفسي، قفز إلى ذهني المثل الشعبي "البكاء على رأس الميت"! ومغزاه أنه حينما يطرح موضوع أو مشروع ما مثل بيع أو شراء، لا يؤجل الدفع أو أي بند من الاتفاق، أي بأن يكون كل شيء جاهزا وحاضرا وقت التوقيع أو التسليم، وليس بعد موت الإنسان بشهر أو اثنين أو سنة يتذكر الفرد البكاء، وهنا بالمقابل لا تتم المفاجأة بالفشل بعد انطلاق الخطة أو القرار بمدة قد تصل إلى شهور أو سنين وعندها تبدأ عملية الترقيع ووضع خطط بديلة تزيد الطين بلّة!

لقد قدم الدكتور كلاين أداة "التشريح ما قبل الوفاة"، كأداة لتحسين التفكير والتخطيط وإدارة المخاطر للمشاريع في إصدار 2007 من مجلة "Harvard Business Review"، وهي عبارة عن تمرين سريع لملاحظة ما يعيق تحقيق النتائج والتسبب في فشل المشروع أو الخطة أو القرار ستة أشهر قبل البدء بالتنفيذ، والفكرة تكمن في أن التشريح قبل الموت هو النقيض للتشريح بعد الموت، تماما مثل لو أننا أخذنا الحالة من المجال الطبي: حيث يسمح بتشريح الجثة بعد الموت للمختصين في هذ المجال الطبي والأسرة لمعرفة سبب وفاة المريض، وهنا يستفيد الجميع باستثناء المريض! ولكن التشريح الأولي في بيئة العمل وفي بداية المشروع أو قبل تعميم قرار أو إستراتيجية ما وليس بعدها، ينبع من فكرة "تحسين" المشروع بدلاً من "تشريح" الجثة.

من الملاحظ أن الفرق بين استخدام هذه الأداة وسؤال أعضاء الفريق عن التحديات التي قد تظهر وتتسبب في فشل المشروع، أن هذه الأداة تعمل على افتراض أن "المريض" قد مات فعلاً، وبالتالي - وهذا هو الفارق الجوهري - يُسأل: ما الخطأ الذي حدث، وليس الخطأ الذي قد يحدث، وهنا تتمثل مهمة قائد الفريق مع الأعضاء في إيجاد أسباب فشل المشروع، ويتكون استخدام الأداة من خمس خطوات كما شرحها موقع "مهارات اتخاذ القرار": التعريف (يتم تزويد الأشخاص بنسخة من الخطة من قائد الفريق)، بمجرد التعرف على الخطة، يتم عقد اجتماع حيث يعلن فيه القائد عن فشل الخطة، (مفهوم الفشل المتخيل مهم هنا لأنه يعزز تحولًّا عقليًّا يستهدف الثقة المفرطة لدى القائمين على وضع الخطة، ومع إعلان الفشل يعطى كل شخص دقيقتين لكتابة أسباب هذا الفشل، ثم تبدأ مرحلة تجميع قائمة الأسباب بأن يبدأ القائد بالإعلان عن سبب واحد للفشل، وبعد ذلك يدور على الأعضاء معطيا كل فرد فرصة بأن يقدم سببًا واحدًا، وتستمر هذه العملية حتى يتم الكشف عن جميع أسباب الفشل الموجودة لدى الأعضاء، ثم وبنفس الطريقة يأخذ كل شخص دقيقتين لكتابة الحلول المحتملة حتى يتم طرح جميع الأفكار على الطاولة، وبعد تحديد الفشل والإصلاحات أو الحلول، تبدأ مرحلة مراجعة وتحديث الخطة من قبل قائد المجموعة، وهنا يجب التّنبّه إلى ضرورة خلق قائد الفريق لدى الأعضاء الشعور بأهمية تطلب إجراءات سريعة، وعدم الإطالة والتركيز على عنصر واحد لكل عضو، وأخيرا يجب التعامل مع العملية على أنها ليست تطوعا، فالجميع يجب أن يشارك في العملية بحيث يحصل جميع المشاركين على درجة معينة من الملكية في العملية.

إن كان الواقع الذي نعيشه يشير إلى أن الكثير من منسوبي المؤسسات والشركات غير قادرين اليوم على المشاركة في صناعة القرارات الخاصة بهم وبحكم التسليم للواقع الملموس الذي يقوم على "إعطاء الخبز للجزار"، فليس أمامنا كأصحاب فكر ورأي إلّا الإدلاء بما نستطيع إليه سبيلا من خلال ما نمتلكه من خبرة ومن علم ومعرفة داخل هذه المساحة التي تعطى لنا للمشاركة، والمشاركة اليوم تمثلت تحديدًا في موضوع طرق مراجعة الخطط التي تُقر، ومن ثم تطبق على الآخرين على تعدد وتنوع حالاتهم، إلا من وضعها بالطبع، إلى أن وصل الأمر ان بعض هذه القرارات وأحيانا المبادرات باتت تطبق بأثر رجعي إن لم تلغ وتصدر بدلاً منها قرارات جديدة وتستمر الدائرة وتطول المعاناة!

تقدمنا بهذه الفكرة لعل وعسى نحدّ مستقبليًا مما قد يعيشه الفرد من تشتت وتغريب في بيئة عمل من المفترض أنها صحية ومشجعة على العطاء والتقدم والتنافس الشريف، ولهذا نقترح، ونتمنى ألا يكون تعاملنا مع "آذان الطين والعجين"، بل مع آذان صاغية تتابع كل مستجد وكل فكر يساهم في التطوير والارتقاء، وأن يتمّ - وكخطوة تجريبية على أمل أن تعمّم لاحقًا - تطبيق أداة التشريح قبل الموت "PreMortem"، والتي تقوم أساسا كما تم شرحه على اعتبار أن القرار أو الإستراتيجية أو الخطة قد فشلت وعليه وجب الجلوس إلى الطاولة لمناقشة أسباب الحدث والتوصل إلى الحلول، لربما نُرحم من القرارات المتخبطة والخطط الباهية والزاهية الألوان التي تزدان بها شرائح العرض، بينما نجد أنها حالما تختفي ألوانها ويظهر فشلها بفعل التطبيق على الواقع، تُسحب بكل هدوء وتضيع كسابقاتها في أروقة السبات الورقي في أدراج ذاكرة النسيان، بلا مراجعة أو محاسبة!