السؤال عن دور الأدب قديم ومتجدد، ربما لأنه لا توجد إجابة قاطعة. فلم تقم هناك مجتمعات من قبل دون أن يكون للأدب دور فيها، ولكن ما أهمية وحدود هذا الدور؟ وما جدوى الأدب اليوم؟

دعونا نفكر قليلاً:

هل يمكن أن يختفي دور الكاتب أو الشاعر في المجتمع؟ ألا يمكن للأدب أن يجد لنفسه دورًا وجدوى في وسط مجتمع تزداد فيه سطوة الأجهزة الإعلامية التي تلعب فيها الصورة دورًا سائدًا؟ وفي مجتمع يخضع أكثر فأكثر، لسيطرة مؤسسات (صناعة العقول) أي أجهزة الإعلام الجماهيرية.

أجهزة تواجه استقلالية التفكير، وحرية الإبداع؟ هل أصبحت هذه الأجهزة من القوة بحيث لا يملك أحد - كاتبًا أو قارئًا - إلا أن يكون مجرد ترس دوّار فيها؟ أظن لا، أظن أن استقراء الواقع يشير إلى الإجابة في ناحية الأمل لا في ناحية اليأس، ولكن هذا طبعًا يتوقف على عوامل كثيرة جدًا.

من البداية لا أقطع بأنه ليس للأدب دور أو جدوى - دور اجتماعي حاسم على الأقل - كما أنني لا أقطع بأنه له جدوى أو دور: الاحتمالان مطروحان، والإجابة تتوقف على عدة عوامل، وفي ذلك تفصيل. خامرني شك كبير في أن عمل المبدع العربي الأصيل، أو المبدع بصفة عامة (أيًا كان تحديد معايير الأصالة والإبداع، إن كان لهما معايير مسبقة) يستطيع أن يقوم بوظيفة، فعالة، مؤثرة على الآليات الاجتماعية، بشكل مباشر وملموس، وعلى المدى القريب، وخاصة في المرحلة الراهنة التي مازالت فيها الأمية الأبجدية لا تقل في أحسن الفروض عن نسبة 50% وتكاد تصل عامة إلى 70%، وما زالت الأمية الثقافية - إن صح هذا التعبير - شائعة، وبشكل أخص بعد أن ارتفع مدّ وسائل الإعلام الجماهيرية وأصبحت فنون (بيع) المنتجات أو السلع الفنية التي تتخذ مظهر الفن، أبرع وأدق وأكثر سطوة.

أتصور أن الرواية أو القصيدة المكتوبة والمطبوعة التي يمكن أن نعتبرها مما ينتمي إلى الفن الرفيع، أو إلى الكتابة الجيدة على الأقل، أصبحت على هامش حياتنا الاجتماعية، جدًا. لكن هذا لا يعني أنه من المقبول أو حتى من الممكن أن ننفي من البداية وظيفة الشعر والأدب والرواية.

بل يعني أن هذا التهميش (المقصود ربما) ليس هو (الهامشية) بل جوهر الفن أنه ليس، بذاته، هامشيًا. صحيح أن ثَمّة إحساسًا يزداد في العالم العربيّ - خاصة في الفترة الأخيرة - بأن المثقف عامة، والكاتب والروائي والشاعر خاصة، معزول عن المجتمع، وأنه كمّ مهمل، وأنه ليست له فعالية، وليست له سلطة، وليست له فرصة المشاركة في اتخاذ القرار الذي يهمه كما يهم مجتمعه. صورة تبدو قاتمة حقًا، في الوقت الذي نكاد نتفق فيه جميعًا على المظاهر الملموسة للأزمة التي يمر بها الأدب في البلاد العربية على اختلاف المستوى:

تمزّق الكاتب وعزلته، انعدام الحرية تمامًا أو جزئيًا، سيادة القيم الاستهلاكية، مشكلة الأمية، وقلة - بل ندرة - القراء، قصور التعليم، نزيف دم الكُتّاب والفنانين في مجاري العمل الإداري والمكتبي، طغيان التسلية السهلة التي تحمل تدميرًا قد يكون مقصودًا للقيم الثقافية، سيطرة أجهزة الإعلام، وتسخير مؤسسات الثقافة لخدمة المؤسسات، تبعية للسوق الرأسمالية العالمية وآليات العولمة أي الهيمنة الاقتصادية وهكذا.

ومع ذلك فإن مقاومة هذه الأزمة والسعي الدائب إلى حصارها والخروج من إسارها لم يتوقف في أي وقت من الأوقات. ومع ذلك أيضًا فإن ثمة إيمانًا قائمًا - مازال - بأن للأدب جدوى.

أتصور أن هناك عند الكتّاب والروائيين والفنانين بصفة عامة هذا الإيمان الذي يتجاوز معطيات الواقع، أي أنه يستمد من الواقع عناصر معينة ولكنه لا يسلّم لها بكل الحتمية التي تبدو أنها تومئ إليها، بمعنى ما. إيمان بأن للأدب وظيفة، بأن الأديب ليس منفيًا - تمامًا - عن التأثير في مجتمعه، وإن كان هذا التأثير غير مباشر، وغير قريب المدى. يشارك جمهور القراء - ضمنًا على الأقل - في هذا الإيمان. يبدو لي، من مجرد أن المشكلة مثارة باستمرار، وأن الإلحاح عليها وتقليب أوجهها لا يتوقف جيلاً وراء جيل، إنها تعكس عنصرًا واقعيًا. لو أن المشكلة كانت مجرد مشكلة تدور بين الكاتب ونفسه، لو كانت مشكلة تدخل في نطاق ما يصح أن نسميه (ذاتية بحتة) لما كان لها هذا التكرار، وهذا الإلحاح. إذن فهذا كله يشير إلى وجود احتياج قائم وحقيقي، حتى على المستوى الاجتماعي، احتياج يعبر باستمرار عن ذاته، لعله احتياج فطري يبحث دائمًا عن التحقيق، أي أن هناك احتياجًا فعليًا ودائمًا لما يفعله الكاتب والمثقف.

ذلك أن الأدب ظاهرة اجتماعية، ونفسية، وميتافيزيقية (ودعائية إذا شئت)، لكنه من حيث هو عمل فني يتعدى كل تلك المقومات ويصدر عنها كلها فإذا هو شيء آخر مستقل يتجاوزها إلى طبيعة أخرى له، طبيعته كعمل جمالي لا تنطبق عليه إلا المعايير الجمالية. فهل يقتصر الأدب على القيم الجمالية البحتة؟

هذا هو السؤال الذي نحاول هنا أن نجد له إجابة بمعنى الربط بين القيم الجمالية وقيم الجدوى الاجتماعية.