من أكبر مآسي الشعور أن يكون خيالك خصباً ووعيك حاداً لتكتشف مأساة أن تكون حوتاً أو حتى دولفيناً ذكياً متورطاً بأنف لا ينقطع عن ضرورة استنشاق الهواء من على سطح البحر، فلا أنت بالحيوان البرمائي كالضفدع أو السلحفاة البحرية، ولا أنت سمكة عادية لا علاقة لها بما هو خارج الماء، عدا أن يكون لها شغل بالنظر إلى نجوم السماء بحثاً عن بوصلة أبعد من نجمة الشمال.

أن تكون حوتاً ضخماً أو حتى دولفيناً متورطاً بأنف أعلى رأسك يجعلك مربوطاً بسطح الماء فقط دون القدرة على السير ولو خطوة واحدة على اليابسة هو بؤس وجودي يعالجه الحوت والدولفين بفن الرقص/‏ القفز على الماء كسلوى وجودية مارسها الإنسان قبلهما من خلال الفنون السبعة.

أن تكون حوتاً أو دولفيناً يعني أن تكون مربوطاً بأنفك لما فوق الماء، ومربوطاً بجسدك وزعانفك إلى ما تحت الماء، فأنت بالأنف تعيش معنى (الهواء) وأنت بجسدك تعيش معنى (السباحة) كحبيس الماء، حتى حرية الضفدع تراها منقوصة فهو العاجز عن المشي كالخيل ليعيش حياته متآلفاً مع ضرورة الارتطام في كل قفزة يخطوها للأمام، هو سباح أفضل منه راكض، لكنه ضفدع أغبى ما فيه أنه لا يشعر بغليان الماء تحته حتى يموت، المهم أن يشعر ببرودة الماء أولاً ثم تزداد الحرارة من تحته وهو غافل، فلن تسعفه حواسه التي تضطره للتكيف مع محيطه، فيتكيف مع درجة الحرارة درجة درجة دون أن يعرف متى تحين ضرورة القفز من الماء إلى اليابسة.

أن تكون حوتاً أو دولفيناً يعني أن تكون متورطاً بأنفك أعلى رأسك، فأقصى مجدك أن تدرك مجد السباحة في الماء، ولكن مهما كنت سباحاً ماهراً بزعانف كبيرة وجسد مرن لدن فإنك لن تحقق المعنى لمجد السابحين وأنت لا تفرق بين الخليج والبحر والمحيط، لأنك ستمضي كل عمرك سابحاً بين الأسماك وأنت تقول: إن عمق الفهم لا قيمة له، فكل الأسماء تعني أن قدري في الماء، ولهذا لا يهم الفرق بين الخليج والبحر والمحيط، فتجيب بألم وأنت تكلم باقي الحيتان والدلافين، تجاهلكم للفرق هو ما يجعلكم مجرد أسماك لا أقل ولا أكثر، من يعرف الفرق سيصنع مناطق للنفوذ، ومراكز للقوى، ومستعمرات..... الخ.

ينسب لعقبة بن نافع بعد أن فتح شمال إفريقيا وتجاوز جبال الأطلس ليجد نفسه فجأة في مواجهة (المحيط) كانوا يسمونه بحر الظلمات، فدخله بفرسه وقال: «اللهم لو كنت أعلم أن وراء هذا البحر أرضاً لخضته إليها» ليستغرق المثقفون العرب في أحلام دونكيشوتية عن (لو خاض عقبة البحر) وكيف يخوضه من هدفه الانتصار في المعارك ضد البشر، وليس الانتصار ضد (المجهول)، فالمعركة ضد المجهول تحتاج إلى (مغامرين) وليست بحاجة إلى عسكريين، فالبشر في سباق (المجهول) نحو الفضاء، احتاجوا أبطالاً (مغامرين) لا يحملون سلاحاً ضد أحد من البشر، بل يحملون العلم والمعرفة، ليتجاوزوا ما تعيشه بعض الشعوب حتى الآن من إنكار كوبرنيكوس، ومن لم ينكره انشغل بإثبات أنهم سبقوه بالفهم، بينما العالم يحفر في الكون باحثاً عن تفاصيل لا تتجاوز وفق إمكانات البشر مقارنة بالكون أن تكون تفاصيل ميكروسكوبية لما نحن جزء صغير وتافه جداً منه يسمونه (درب التبانة).

عزيزي عقبة بن نافع، إن صدق التاريخ فيما نسبه إليك، فستكون أول عربي ابتدع (الهياط) في رغبة خوض غمار المحيط الأطلسي على ظهر حصان، ليت علماء البلاغة توقفوا عن تجميل (الهياط) فلن يكون جميلاً إلا في (الغزل) ولهذا كان عمر بن أبي ربيعة يستنكره إلا في (الغزل)، يكفي أن نرى التاريخ الأوروبي وكيف تخلص من هياط (عصورهم الوسطى) ليسأل أحد الجنود الفرنسيين نابليون قبل اندلاع معركة واترلو، هل الله معنا أم مع الإنجليز؟ فأجاب: الله مع أصحاب المدافع الأكبر.

أحضر والدي عند عودته من مقر سلاح المشاة باللواء العشرين بخميس مشيط قبل أكثر من ثلاثين عاماً مجلة عسكرية- نسيت اسمها- كنت سعيداً بها ومما بقي في ذاكرتي وما زلت صغيراً بحث بعنوان «هل أحرق طارق بن زياد سفنه؟» ناقش الباحث هذه المسألة، وكان ذكره أدلة المنكرين لهذا الإحراق صادماً لعقلي (الطفولي) الذي يؤمن بالبطولة أكثر من إيمانه بالواقع الميداني لأي معركة في التاريخ، هذه الصدمة جعلتني أفكر في كل ما آمنت به من تفاصيل تاريخية لكل المعارك التي قرأت عنها في كتب المدرسة، فالتفكير النقدي هو الطريق الصحيح والسليم لبناء نظرة طبيعية وعملية للحياة والكون، فلو امتلك الدولفين عقلاً كعقلنا لكان محتاجاً لنا في أدواتنا، لكنه يملك عقلاً وفق (واقعه المادي) الذي يجعله يرقص حول القوارب والسفن كأقصى إمكانية للإحساس بالوجود وفق (الوعي الدولفيني) المتورط بأنف أعلى الرأس، وما أقسى (الواقع المادي) على من يريدون تجاوزه إذا أخذناه بعيون من قال: (لا تتقرر الحياة بناء على الوعي، لكن الوعي يتقرر بناء على الحياة).