في مطلع الثمانينيات، ولدت ما يشبه «الثورة الخمينية» في لبنان. كانت إطارا جامعا لغالبية عُلماء الشيعة، ودافعا كبيرا لتحويل القواعد الشعبية الشيعية إلى تكتلات أو مجتمعات متفرقة أقرب ما تكون إلى «جموع حربية». صحيح كان للحرب الأهلية في لبنان دور كبير في «عسكرة» المجتمع اللبناني - إن جاز التعبير -، لكن تلك الحالة لم تكن مرتبطة بأيديولوجية دينية معينة، سواء كانت مسيحية أو مسلمة أو عروبية، لا تهتم بالأديان أيا كانت، بخلاف الأمر نفسه المتعلق بالطائفة الشيعية.

ومع الوقت ومرور السنين، اعتادت تلك الشريحة من الشعب اللبناني ما يسمى «التعبئة»، التي تقوم على أساس مذهبي وطائفي، يصل في غالب الأحيان إلى التطرف، وهو ما منح الأرضية لتقديم مئات من الأسر الشيعية في لبنان أبناءهم كأدوات بيد «حزب الله»، الذي حمل لواء «الثورة الخمينية»، وأخذ على عاتقه استنساخ تلك التجربة على الأراضي اللبنانية، وعمل على تهيئة الحواضن الشعبية الشيعية لتقديم التضحيات، التي لا سقف لها، حتى وإن بلغت التضحية بالأبناء والنشء على حساب تنفيذ إستراتيجيات الحزب العابرة للقارات.

وقد أُوفق إذا ربط الوجود السوري في ذاك الوقت، الذي كانت تسير عبره لبنان «الدولة» وفق الخطى المرسومة من «قصر الشعب» في دمشق خلال عهد الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد إلى أن تولى القيادة ابنه «بشار» في سورية، ونفذها عدد من ممثليه - مثل رستم غزالة، وغازي كنعان، رئيس شعبة المخابرات السورية في لبنان، الذي وُجد منتحرا في مكتبه في نهاية غامضة، تشبه نهايات كثير من ضباط الاستخبارات السورية - قرابة 20 عاما، مما أسهم في صناعة الشكل الإطاري للثورة الخمينية في لبنان، التي تبناها «حزب الله» و«حركة أمل»، حتى إن كانت من وراء ستار.

وأتصور أن حملة الضغط التي أقدمت عليها واشنطن وباريس، وأجبرت دمشق على الخروج من الأراضي اللبنانية، بعد مقتل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في 2005، بموجب قرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن، الذي ولد على أساس مقترح أمريكي - فرنسي، ولم تنفذه حينها القيادة السورية ولم تُعره اهتماما، كانت سببا رئيسا للجوء النظام السوري لصقل عدد من الشخصيات الخارجة عن النص السياسي اللبناني، وذات التوجهات الـ«لا وطنية»، ومنحها بالتالي الصلاحيات والنفوذ الذي كان يتمتع به ضباط مخابرات نظام الأسدين (الأب والابن)، بهدف تشتيت الانتباه، والعمل على تفكيك النسيج الاجتماعي اللبناني، لخلق تصور لدى الرأي العام العالمي؛ مفاده بألا أحد يمكنه ضبط إيقاع الحياة السياسية في لبنان أكثر من أقبية الاستخبارات السورية. ما يؤكد ذلك قوائم الاغتيال التي طالت سياسيين ورجال أمن وصحافيين لبنانيين، جريمتهم الأساسية معارضة النظام السوري، على يد أزلام دمشق التي تم تمكينها في مواضع كان يتحكم بها نظام الأسد في لبنان، وهو الأمر الذي خلق إطارا من الرعب من تلك الأدوات، التي تمكنت من استيراد السلاح بمختلف مستويات قوته من الجمهورية الإيرانية وسوريا تحت ذريعة مواجهة إسرائيل، عبر خلق جبهة تسمى «المقاومة»، اجتمع في هيكليتها عدد من الدول مثل إيران وسورية، وبعض من الأحزاب الإرهابية مثل حركة «حماس»، والجهاد الإسلامي في قطاع غزة، و«حزب الله» في لبنان، إلى أن اتضحت كذبة مقاومة إسرائيل، بعد أن تم تحويل بندقية تلك الكيانات المسلحة إلى صدور الشعب السوري عقب الثورة ضد نظام بشار الأسد، وسبق ذلك انقلاب دموي، المعروف بـ«أحداث 7 آيار»، التي شهدتها العاصمة اللبنانية (بيروت)، بينما لا يزال التلويح بالسلاح نفسه في وجه الشعب اللبناني والدولة اللبنانية قائما، حتى انصاعت لأوامر، واجهتها أنها صادرة من «حزب الله»، وهي في الحقيقة قادمة من مكاتب «الحرس الثوري» والمخابرات الإيرانية في أقصى الشرق، ناهيك عن أن الميليشيا المتطرفة وضعت سلاحها في مواجهة المحيط العربي، وثبت ذلك من خلال مشاركتها في اليمن والعراق، بالإضافة إلى سورية. أعتقد أن المشهد المتواتر في لبنان، منذ أكثر من 30 عاما، يُشبه إلى حد ما انقلابا قام ذات يوم من قبل الخميني على شاه إيران، بعد أن تعرض لعملية احتيال دولية منظمة، كان أحد فصولها تمكين الأول من نظام الأخير، الذي مات بحسرته في منفاه بالعاصمة المصرية (القاهرة)، ونعاه حينها الرئيس المصري أنور السادات في رسالة تأبين للأمم المتحدة، وصفه عبرها بـ«الصديق والشقيق».

فما يُمكن رؤيته في لبنان من آلام للشعب اللبناني، الذي بات جُل همه المحافظة على سعر صرف عملته المتدني في الأساس، ورغيف الخبز الذي بلغ 2500 ليرة بألا يقفز إلى أكثر من ذلك، واختلاط في الأوراق، وتسيد خطاب مُغلف بعاطفة، لكنه يحمل بين طياته قنابل موقوتة لا تتناسب مع طبيعة ذلك البلد، قريبٌ بقدر كبير لمشهد انقضاء نظام علماني في إيران بالانقلاب على الشاه، وسيطرة نظام ديني فاشي، يعتمد على شعارات وردية زاهية المنظر، لكنه يخفي أخطر صور الكراهية والتطرف المذهبي في طياته. بناء على كل ما سبق، فالأمر متاح، والمقارنة واردةٌ بين منهجية قامت عليها الجمهورية الإسلامية في طهران، بعد دخول عمامة سوداء وسيطرتها على سدة الحكم، لا يزال العالم يُعانيها، وبين من يتزعم ويرتدي العمامة نفسها في لبنان، منفذا إيديولوجية متطرفة تنبذ الآخر وتضع مصالح الدولة آخر اهتماماتها، ودمرت البلاد والإنسان، تارة بقوة بالسلاح، وأخرى بسلاطة اللسان. وانقسم المجتمع الواحد إلى فئتين، لا تزالان تعيشان على رُكام ما كان يُسمى «لبنان».

القادم أسوأ، وأكثر مما كان، ما إذا تمادت الغربان في تنفيذ أوامر طهران.. فلنراقب ونرى.