والسائل إنما كرر طلب الوصية لظنه أن الوصية بعدم الغضب، إنما هي في أمر جزئي، وهو يريد أمرًا كليًا، فلما أعادها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أنها أمر كلي من جوامع الكلم.
وقد يقول قائل: الغضب لا أحد يرغبه، لكنه ليس بيد الإنسان، وإنما هو انفعال سريع يهجم على الإنسان، بسبب أمر مُستفز، يصعب دفعه.
فنقول: النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر الناس بشيء خارج عن مقدورهم وما يطيقونه، وعليه فإن الوصية النبوية «لا تغضب» تتضمن أمرين:
الأول: البعد عن أسباب الغضب، فإذا عرفت أن ذهابك إلى مكان معين، أو دخولك في نقاش موضوع معين، سيؤدي بك إلى الغضب الذي قد يخرجك عن طورك واتزانك، ويكون سببًا في وقوعك في كلام أو فعل، تندم عليه، أو يكون مفسدته أكثر من مصلحته، فإن المتعين أن تأخذ بالأسباب فتعرض عما يثير غضبك، فتحفظ دينك وصحتك.
وعلى الإنسان - لا سيما من يخالط الناس ويسعى لنفعهم وتوعيتهم - أن يتمرَّن على الحلم والصبر، فإن من يتصبّر يصبّره الله، وليوطّن نفسه أنه لا بد من الأذى، ولكن سعة الصدر، والاحتساب في تحمل الأذى، والدفع بالتي هي أحسن، فيه أجر عظيم، وثمرات نافعة، ولذلك فمعرفة الإنسان بعاقبة الصبر، تعينه على الصبر، وأما من لم يُحط خُبْرا بثمرات الصبر، وحسن عاقبته، فإنه لا يستطيع الصبر، وقد قال الخضر لموسى عليه السلام كما ذكر الله في كتابه (وكيف تصبر على مالم تُحط به خُبْرا)؟
الثاني: أنه إن قُدِّر أنه غضب، فعليه ألا يُنفّذ مقتضيات الغضب وما يؤدي إليه، فإن الإنسان قد لا يتمكن من رد الغضب، لكنه يتمكن من عدم تنفيذه، وليستحضر قوله تعالى عن أهل التقوى (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاس)، فمن كظم غيظه وغضبه حصل له أجر عظيم وفي الحديث الذي رواه أبوداود (مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وهوَ قادِرٌ على أنْ يُنْفِذَهُ ؛ دعاهُ اللهُ سبحانَهُ على رُؤوسِ الخَلائِقِ يومَ القيامةِ حتى يُخَيِّرَهُ مِن الحُورِ العِينِ ما شاءَ)، ثم إن من كظم غيظه ولم يُنفّذه فإنه في حقيقة الأمر كأنه لم يغضب، لكمال قوته العقلية والقلبية، وهذا هو القوي حقًّا، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب) أما من لم يملك نفسه عند الغضب، فارتفع صوته، وساء كلامه، واحمّر وجهه، وانتفخت أوداجه، فذلك ضعيف جدًا، لأنه ضعف عن السيطرة على نفسه واتزانه وهدوئه.
وتأمل قوله تعالى (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين) تجدها آية جامعة لحسن الخلق مع الناس، ففيها الأمر بأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفس الناس، وجادت به، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، وفيها الأمر بِالْعُرْفِ أي: ما يُعرف حسنه من الأقوال والأعمال، ولما كان لا بد من أذية الجاهل، أمر اللّه تعالى بالإعراض عنه، وعدم مقابلة الجاهل بجهله، فمن آذاك فلا تؤذه، ومن ظلمك فاعدل فيه، لأن الخطأ لا يُعالج بخطإ آخر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى» (3/245): «هذا وأنا في سعة صَدْرٍ لمن يخالفني، فإنه وإن تعدَّى حدود الله فيّ بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبية جاهلية، فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله وأفعله، وأزنه بميزان العدل، وأجعله مؤتمًا بالكتاب الذي أنزله الله، وجعله هدى للناس، حاكمًا فيما اختلفوا فيه)أ.هـ.
وأما الغضب الذي لا يخرج عن حد الاعتدال، ويكون له موجب، كانتهاك محارم الله، أو تنفير الناس عن دين الله، فيغضب لذلك، ولكن لا يقول إلا حقًّا، ولا يتصرف إلا بما توجبه الشريعة، فهذا محمود، وقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنِّي والله لأتأخَّر عن صلاة الغداة مِن أجل فلان ممَّا يطيل بنا فيها، قال الراوي وهو أبو مسعود رضي الله عنه: فما رأيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قطُّ أشدَّ غضبًا في موعظة منه يومئذ، ثمَّ قال: يا أيُّها النَّاس، إنَّ منكم مُنَفِّرِين؛ فأيُّكم ما صلَّى بالنَّاس فليوجز، فإنَّ فيهم الكبير والضَّعيف وذا الحاجة).