ليس سرًا أن العالم يتوجه نحو الاقتصاد الصفري للكربون، أو ما نعترف به في السعودية باسم الاقتصاد الدائري للكربون وغايته أن يكون ناتج الكربون وغازاته المنبعثة إلى الغلاف الجوي يساوي صفرًا.

والفرق بين المفهومين هو أن الأول يصنع صورة نمطية منحازة ضد الكربون وكأنه عنصر سام أو مضر بالحياة وهو الأكثر وفرة وتتكون منه كل الأشكال العضوية للحياة، وذلك من أجل منافسة الوقود الأحفوري الطبيعي والذي لا يتوفر كثيرًا في أوروبا وفي أمريكا بخلاف الشرق الأوسط وروسيا.

طبعًا، جميعنا نتفق في أن الحفاظ على كوكب الأرض وسلامة المناخ من أهم أولويات قادتنا وصنّاع القرار في كل دول العالم تقريبًا ودليلي على ذلك هو ما قامت به السعودية فعلاً في سبتمبر من العام الماضي بإطلاق مبادرة الاقتصاد الدائري للكربون ومصادقة الدول العشرين عليها خلال فترة ترؤس المملكة للقمة. إضافة إلى ذلك سوف تستعرض دول العالم في مؤتمر جلاسكو في الأول من نوفمبر القادم خططها نحو الوصول إلى الاقتصاد الصفري أو الدائري بحسب كل اقتصاد ومقدّراته وإسهاماته.

الوقت قد لا يكون فات على كبار المستثمرين والتجار والذين يرغبون في وضع نماذج مشاريعهم طور التنفيذ إمّا في مجالات الطاقة أو مجالات خدماتها أو حتى المجالات الكبيرة التي تحتاج إلى استهلاك عالٍ من الطاقة. ستواجه الشركات خلال الأشهر القادمة إن لم تكن قد واجهت بالفعل قيودًا في ضرورة خفض انبعاثات غازات الكربون من سلاسل إمداداها وعملياتها التشغيلية وحتى منتجاتها النهائية وأيضًا في ضخ الملايين من أجل مشاريع الطاقة النظيفة.

سوف يتشكّل مفهوم جديد مع الزمن وهو أن تكون الشركات الداخلة في المناقصات أو المساهمات أو حتى تقديم الخدمات والمنتجات النهائية «صديقة للبيئة» من أجل أن تنخرط في التنافس التجاري والاستثماري، وعليه فإنها لن تكون قيمة إضافية بل قيمة أصيلة في أعمال الشركات والمشاريع التجارية، وسوف تكون خلال العقد الجاري ميزة تنافسية تعجّل من زيادة حصص المستثمرين الأسرع، إيمانًا بهذه المفاهيم، في حين سوف تحتاج الشركات المتأخرة إلى سنوات للحاق بالركب عندما تكون الاشتراطات ملزمة من قبل السلطات البيئية في البلد.

إن مرحلة الانتقال من الاقتصاد الخطي إلى الاقتصاد الدائري تحتاج إلى فهم في مستقبل استخدامات الوقود والمصادر الأحفورية التي تعتبر المنتج الأكثر لغازات ثاني أكسيد الكربون الذي هو جزء من مشكلة التغير المناخي.

بالنسبة للنفط فإنه يتوقع أن يعود الطلب عليه إلى مستويات ما قبل الجائحة خلال الربع الثاني من 2022 إلى مستويات 99.7 مليون برميل يوميًا على أن يزداد تباعًا حتى 2050 وما بعده، وهذا سيكون مدفوعًا بالطلب الشرق آسيوي وأيضًا الأمريكي، كما أن الهند لديها خطة طموحة في نهضتها الاقتصادية ستحتم عليها استهلاك أكثر للنفط وهو ما سيؤثر بشكل إيجابي في زيادة الإنتاج اليومي.

وبالنسبة للغاز فإن العالم سيضيف سنويًا 300 مليون طن من الغاز الطبيعي بدءًا من 2021 وحتى 2025، 60% منها في أمريكا، و15% منها في الشرق الأوسط و 15% منها في روسيا، وهذا يعني انتعاشًا ونموًا في صناعة البتروكيماويات والمعادن والنقل الثقيل وإنتاج الكهرباء.

ومع هذا التوسع في إنتاج النفط والغاز عالميًا ينبغي أن يمسك المستثمرون العصا من النصف في محاولة لاقتناص الفرص الاقتصادية مقابل الوفاء بخفض انبعاثات غازات الكربون بكل أشكالها، وبالتالي ينبغي تبني تقنيات التقاط الكربون وإعادة تدويره واستخدامه وتخزينه.

حتى الآن، المستثمرون الأذكياء فقط هم الذين بادروا بتبني وسائل التقاط وخفض وتخزين الطاقة ووسائل نظيفة وخضراء لتقنيات الطاقة، فالسعودية تعتبر خير مثال على مستوى العالم لأنها بدأت فعليًا في تعظيم مصادرها المتجددة للطاقة وضخ المليارات في سبيل إنشاء بنية تحتية للطاقة النظيفة، وهي بهذا العمل تكسب ميزتين تنافسيتين، الأولى: دمج التقنيات النظيفة مع اقتصاد ما بعد كورونا. فالاقتصاد بعد كورونا لن يمضي بنفس الاندفاعية التي كانت قبل كورونا، بل إن الكثير من القيود والضمانات يجب أن توضع في خطط الاقتصاديين. والثانية: هي استثمار النهضة المجتمعية الكبيرة في السعودية بتبنّي ثقافة الطاقة الخضراء في الصناعة والتجارة وحتى في الاستخدام المنزلي والشخصي.

لذلك سيكون المستقبل أكثر إشراقًا وازدهارًا للمستثمرين الذين يكسبون مشروعاتهم الصبغة الخضراء قبل أن تبدأ حكومات العالم في فرضها كشروط للأعمال.