سأبدأ المقال بقصة ذكرتها سابقا، لكنها قد تناسب الموضوع. يحكى أن مسابقة أقيمت بين الدول، لمعرفة أفضل جهاز استخبارات؟، وكانت المسابقة هي إطلاق غزال في البراري، وإرسال فريق استخبارات للقبض عليه، ومن يحضره في أسرع وقت هو الفائز. أحضرت الاستخبارات الروسية الغزال خلال ساعة ونصف الساعة، واستغرقت الاستخبارات الأمريكية (سي. أي. إيه) ساعة للقبض على الغزال، والاستخبارات البريطانية قضت وقتا أطول قليلا، وهكذا دواليك. وجاء دور دولة عربية من «عرب الشمال»، وذهب فريقها للقبض على الغزال، ومضت ساعة وساعتان وخمس ساعات وثماني ساعات ولم يحضر الفريق، فذهبوا للبحث عنهم، فوجدوهم ممسكين بحمار يضربونه، ويقولون له: اعترف أنك غزال!.

بغض النظر عن صحة هذه الحكاية من عدمها، لكنها تشير إلى كيف تدار الأمور في بعض البلاد العربية دون تخطيط أو بعد إستراتيجي. قبل أن أدخل في تفاصيل المقال، وقبل أن يقول البعض إني قد أظلم البعض، فأنا لا أعمم، لكن دعونا نبدأ المقال بالملاحظات البسيطة، ومن ثم ندخل في تفاصيل التحليل الإستراتيجي.

لو أحدكم شاهد أحد الأفلام العربية البوليسية القديمة، لرأى مشهدا معتادا، وهو التسجيل بصورة سرية للمجرم وشريكه وهما يخططان للجريمة، حيث تكون الكاميرا من النوع الكبير جدا التي تستخدم في أستوديوهات التلفزيون ومعلقة بالسقف، وصعب جدا ألا يلاحظها أحد إلا إذا كان كل من بالفيلم عميانا مثلا!، أو تشاهد في بعض الأفلام العربية إذا حدثت جريمة معينة أن المسؤول عن القضية يطلب إحضار كل من في الحي من مجرمين أو غيره، أو من له علاقة، أو كان مارا بالصدفة، ويجلدهم كلهم (لما يعضون الأرض) لحد أن يعترف واحد منهم، دون أي ذكاء أو مهارات أو حبكة درامية معتبرة، بل بأسهل الطرق. قد يقول قائل: هذه مجرد أفلام حتى لو ما تحترم عقلية المواطن العربي، وهذا كلام لا غبار عليه، لكن ضربت الأمثلة من باب التوضيح، وتقريب الصورة، وسأتطرق لاحقا لأمثلة واقعية للتفكير الإستراتيجي، فنحن نكتب للعامة، وتوضيح الصورة مطلب، أليست الأفلام إلى حد ما تعكس بعضا من طبيعة المجتمع؟. انظر إلى الحبكة الدرامية والتخطيط في الأفلام الأجنبية، ترى عملا محترفا متكاملا وموضوعا له خطة، ليحاكي الواقع بعض الأحيان.

الآن دعونا نذهب للأمثلة الواقعية، يمكنك القول إنك لن تستطيع أن تعرف المفكرين الإستراتيجيين العرب كلهم، لأن عملهم سري ومخفي، فكيف تحكم عليهم؟!، لكن يوميا تشاهد عشرات المحللين الإستراتيجيين العرب المتقاعدين في القنوات والإعلام، وتسأل نفسك: هل معقولة هذا كان محللا إستراتيجيا، ومرتبة عالية في دولته وهذه سوالفه؟!، فبعض سوالفهم تحسها كانت سوالف مجالس أو على قهوة!.

إن الخبير الإستراتيجي المحترف يظهر ذلك جليا عليه وعلى كلامه وطريقة تحليله، وسرده الأحداث وتحليلها، ومعرفته الخفايا والإشارات، وتنبؤه بالنتائج، وليست سوالف عادية ربما يستطيع قولها أي واحد. عندما تسمع من خبير إستراتيجي أجنبي، تظهر من اللغة والسرد بوضوح الاحترافية والخبرة والتخطيط!، وسأعطي مثالا متعلقا بما ذكر سابقا، ويبين لماذا بدأت بالأفلام. تذكرون لما تكلمنا عن حبكة الأفلام، فإن هؤلاء الخبراء الأجانب، كثير منهم يستعان به في كتابة الحبكة الدرامية والتخطيط المقارب للواقع، وأخذ الاستشارات في الأفلام الأجنبية، لذلك تخرج الأفلام بهذه الصورة، بينما الأفلام العربية إذا استعانوا بخبرة بعض الخبراء الإستراتيجيين العرب، فإنكم تشاهدون نوعية الأفلام العربية التي خرجت من قبيل مطاردات «ملحم صدام السيارة بالصدام»، وكأنه لا يراه، وهذا كله و«يسوي إنه ما يشوفه»!، أو صرير العجلات والأرضية تراب، لأنه ما اعتادوا استخدام الذكاء والحنكة والتكنولوجيا والتخطيط، كأن الموضوع «جيبوه!» وبعدها يتصرفون معه ويجلدونه لحد ما يعترف، ولو أرادوا أن يعترف أنه سبب الاختفاءات الغامضة في مثلث برمودا لفعل، وقال إنه السبب في هذه الاختفاءات!.

لذلك هناك فشل ذريع لبعض التخطيط العربي في الأمور الإستراتيجية، فخسائر العرب منذ مئات السنين مستمرة، حيث أتى العثمانيون واستولوا على ثرواتهم، وأتى بعدهم الأنجليز والفرنسيون، ومصوا الثروات وزرعوا المؤامرات بينهم، وأقصى حد يصله بعض العرب أن يقولوا إن هناك مؤامرات تحاك ضدهم. ما الفائدة من ذلك إذا لم تعرف تبطل المؤامرات وتحلل وتخطط للمستقبل. ثم أتت دولة صغيرة من شتات الأرض، وكونت أقوى دولة في المنطقة، وعدد سكانها أقل من %3 من عدد العرب!، والعرب ما زالوا يلومون الآخر. هل سأل العرب أنفسهم: لماذا تقريبا كل مشاريعهم خارج الحدود فشلت؟!، لأنه لا يوجد تخطيط وذكاء وعمل محترف، وهنا يأتي دور المهارات والقدرات والتخطيط الإستراتيجي، حيث لا يستطيعون التحكم ببقية الظروف كما في أراضيهم، وهم لم يتعودا على النجاح عندما تكون بقية الظروف لمصلحتهم.

لو قدر للقارئ العربي يجلس يوما مع خبير إستراتيجي أجنبي، ولنفرض أنه بريطاني على سبيل المثال، وسأله في أي موضوع، فقط استمع للكلام الاحترافي، بل لتجعل الموضوع أصعب، اعطه سيناريو تخيليا، وأخبره أنك تريد هذه النتيجة والأهداف. فقط اجلس واستمتع بالتحليل، ومن ثم التخطيط ومن ثم التنفيذ، وسترى خططا صعب أن تخطر على البال، وكيف ممكن أن تخفي السيناريو الحقيقي تحت عدة أغطية من التمويه، لدرجة أنه يصعب عليك حتى معرفة الهدف لو لم تكن أنت من وضعت الهدف!. لسنا نتكلم عن شىء غير ملموس، بل هناك ورش عمل وغيره، لترى وتسمع التحليل الإستراتيجي، وإذا كان الخبير، كما ذكرنا، بريطانيا مثلا، فستحس بالخبث والدهاء في السيناريو، وكأن الشيطان جالس في الزاوية ينظر ومعه دفتر ويتعلم! (آمل ألا يأخذ البريطانيون هذا كقدح ولكن من الدهاء).

الآن حاول أن تجلس مع خبير إستراتيجي عربي، وأسأله عن سيناريو؟، ربما ستجد نفسك أمام سيناريو قصير الأمد، لا يقنع حتى طفلا. لا ألوم البعض عندما يقولون إن بعض العرب لا يرى أبعد من أرنبة أنفه.

عندما تذهب لإحدى الجامعات، وتحضر دروس التحليل والتخطيط الإستراتيجي، عادة يكون الأستاذ خبيرا إستراتيجيا متقاعدا، بعد أن عمل عقودا في الحكومة أو أحد مراكز البحث الإستراتيجية، ويستفاد من خبرته عندما يشرح كيفية التحليل أو وضع السيناريوهات أو التخطيط بعيد الأمد أو تحليل الحوادث والسياسات، أو كيفية إخفاء آثار الأهداف الحقيقية أو إدارة مفاوضات، تبهرك من اللغة والتخطيط، وببساطة تسأل نفسك: ماذا يخططون لبقية دول العالم هؤلاء منذ سنين؟!.

هذا ليس تقليلا من ذكاء العرب وتفخيم الأجانب أو جلد الذات، بل نؤمن أن الذكاء موزع بين البشر من مختلف الأجناس، لكن العرب ليس لديهم إلى الآن بعد إستراتيجي، بل أغلب تفكيرهم قصير المدى، والعديد من قراراتهم شبه فردية، وانظروا النتائج خلال العقود الماضية، من هزائم وفشل دول وفشل تنمية.. إلخ.

لذلك أقترح بشدة استخدام كفاءات وخبراء إستراتيجيين محترفين في التخطيط الإستراتيجي، ووضع الخطط والسياسات، وحتى المفاوضات مع الغرب. أنت تدفع له أجره ليخدمك خدمة مدفوعة الثمن، وتطلب منه نتائج، والدفع على النتائج. لماذا يستمع العرب للإسطوانة المشروخة بأن جلب خبراء إستراتيجيين سيعطون استشارات وخططا تخدم مصالحهم ودولهم!، ونظريات المؤامرة. يا رجل الدول الغربية مخترقة العرب للنخاع منذ عقود، ويعرفون حتى مقاس فانلة الواحد، على الأقل تأتي بناس محترفين يعرفون كيف يتعاملون مع الغرب، لأنهم منهم ويعرفون تخطيطهم وتكتيكاتهم، وكن سخيا معهم، واكسب ولاءهم وحاسبهم على النتائج (داوها بالتي كانت هي الداء).