زخرت حقبة الإصلاح الديني في أوروبا بكثير من الأقاصيص التي ألهمت المثقف العربي المبهور بما يتخلل هذه القصص الفانتازية من خيال وإثارة ومعارك طاحنة بين قوى التنوير وقوى الظلام. صورت هذه الأقاصيص التاريخ البشري وكأنه صراع محموم بين المثقف المتنور الذي يحمل شعلة التقدم والتحرر، وبين رجال الدين المتزمتين.

وبدافع من الهزيمة الثقافية، أراد المثقف العربي أن ينقل حلبة الصراع بين قوى التنوير وقوى الظلام لعالمه المأزوم، دون أن يكلف نفسه عناء البحث، ودون أن يتعب حاسته النقدية المرهفة بالبحث والتنقيب عن حقيقة هذه الأقاصيص، وما هي ظروفها وملابساتها التاريخية، وأين يكمن جانب التخييل فيها.

تناولنا في المقال السابق حركة الإصلاح الديني في أوروبا، وكيف أن الأفكار الإصلاحية المنتشرة في المناخ الاجتماعي العام مستلهمة أساسا من ترجمات النص القرآني، حيث كان لها طابع سلفي، لأنها قامت على ثلاثة محاور تمثل جوهر المنهج السلفي، أولها تعزيز دور النص، وثانيها العودة للعصور الأولى للشريعة الدينية، وأخيرا رفض أي محدثات واختراعات بشرية، انطلاقا من الفهم الصحيح للنصوص المقدسة والكتب المنزلة. وعلى أساس التخلص من الشوائب العقدية والعودة إلى نقاء العقيدة وبساطتها، قامت حركة الإصلاح الديني الأوروبي بين عامة الناس، بمعنى أن المناخ العام في المجتمعات الأوروبية أخذ يتقبل فكرة رفض «صكوك الغفران»، لأنها تمثل عادة دخيلة على الديانة المسيحية.

نتيجة الاحتكاك الثقافي ونشاط الترجمة، أخذت أفكار الإصلاح الديني تطفو على السطح، تضاف إليهما عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية أخرى، حيث لم تكن مقصورة على مجهودات فردية لمثقف واحد مثل مارتن لوثر، أو مجموعة من الفلسفات العقلانية التنويرية المعلبة أو الإجراءات الإدارية الجاهزة لفصل السياسة عن الدين. وهنا يتبادر للذهن السؤال: ما هي طبيعة الفصل بين السياسة والكنيسة في القارة الأوروبية آنذاك؟. يقول المؤرخ والفيلسوف الأمريكي ويل ديورانت: «كان رجال الكنيسة الإيطاليون يهيمنون على السواد الأعظم من الكنائس الألمانية ويتصرفون في أموالها وثرواتها، وكان ذلك يثير نقمة الألمان واستياءهم».

يكشف لنا حديث «ديورانت» عن طبيعة الفصل بين الكنيسة والسياسة، فقد كان لظهور النزعة القومية دوره البارز في دفع حركة الإصلاح على المستوى السياسي، مما قاد نحو زيادة احتجاجات الحكام في إنجلترا وألمانيا وفرنسا، لأن ثروات بلدانهم كانت تستنزف، واقتصادهم القومي يتعرض للضرر بسبب تحويل أموالهم إلى روما، لذلك كانت النزعة القومية تعزز حالة التحرر من تسلط كنائس روما التي تدعي رئاسة العالم المسيحي. يضيف «ديورانت»: «لماذا يتحتم على الكنيسة الألمانية أن تدفع هذه الجزية الدائمة إلى سلطة؟، فليتخلص رجال الدين الألمان من تبعتهم لروما، ولينشئوا كنيسة قومية تحت زعامة كبير أساقفة ماينز».

يتضح لنا هنا طبيعة الفصل بين الكنيسة والسياسة، وحقيقة الإصلاح الديني في أوروبا، حيث يتضح أن الصراع لم يكن بين دين وسياسة، بل كان صراعا بين قوميات متعددة، فكل قومية تريد أن تحرر نفسها من أي شكل من أشكال التبعية الاقتصادية والسياسية. كذلك، فإن السلطة السياسية في ألمانيا كانت تغذي في رعاياها التمرد على سلطة البابا والكنيسة، ويشجعون أي أفكار تحررية أو إصلاحية، لأنها ستسهل عليهم عملية الاستقلال بشؤونهم المالية، وبناء قواتهم العسكرية الخاصة بهم بعيدا عن تحكم مؤسسة الكنيسة الإيطالية التي كان لها مبعوثوها في شتى أنحاء العالم المسيحي. الجدل حول علاقة السياسة بالدين له طابع سياسي عميق ومتجذر، ومرتبط ارتباطا وثيقا بالتاريخ المسيحي، ونشوء مفهوم «العلمانية»، الذي يعد موروثا مسيحيا بامتياز ومرتبطا بهذه الصراعات القومية بين الشعوب الأوروبية، فالصراع لم يكن في الواقع بين قوى التنوير وقوى الظلام، كما تصوره لنا كتب تاريخ الفلسفة، إذ أن الحروب الدينية في أوروبا حقيقة كانت حروبا سياسية بين قوميات متناحرة. ولم تقتصر هذه المعارك السياسية بين ألمانيا وإيطاليا، بل انتقلت رحى الحرب ناحية فرنسا وصراعها، ممثلة في حركة «جان كالفن» الإصلاحية ضد إسبانيا الكاثوليكية. يقول «ديورانت»: «ولكن الكالفنيين الفرنسيين واجهوا اضطهادا شديدا من الكاثوليك المهيمنين على شؤون البلاد الذين تدعمهم إسبانيا الكاثوليكية ودارت رحى حرب دامية بين 1562 و1598 إلى أن أصدر الملك هنري الرابع مرسوما يمنح الكالفنيين حرية الاعتقاد، وقد عرف هذا الأمر باسم «مرسوم نانت»، بيد أن لويس الرابع عشر أصدر في 1685 أمرا ألغى هذا المرسوم في محاولة لتوحيد فرنسا تحت لواء كنيسة كاثوليكية تتبع الدولة».