ضجت مواقع التواصل الاجتماعي وارتفعت الترندات دفاعًا عن الألباني، وأن قناة فضائية أساءت إلى سمعته، وأن الإساءة إليه هي غطاء للتوصل للطعن في الثوابت الدينية، وأن الإساءة إلى علماء الأمة الإسلامية هي إساءة للدين الإسلامي، وهي طريق من طرق الخروج منه من أوسع أبوابه، وهذه شنشنةٌ نَـعْـرِفُـها من أخزم، (وهذا المثال كان كثيرًا ما يُردده على مسامعنا شيخنا محمد ناصر الدين الألباني رحمة الله عليه). هذا التسلسل في الاستدلال هو عين استدلال جماعات الفكر المتطرف والتكفير والجهاد والكفاح المسلح، ويتأسس على فكرة التسلسل في تساوق الأحداث والتصرفات، وربط بعضها ببعض لتصبح مثل المقدمات في القياس الاستدلالي، كي يخرج بالنتيجة التي يُريد المستدل إنزالها على المسلمين الذين يظن أنهم قد ارتكبوا كفرًا. وتلك النتيجة، التكفير وإخراجهم من ملة الإسلام، وهو طريق في الاستدلال فاسد وساقط الاعتبار، لقيامه على مقدمات فاسدة، ولمخالفته أصول ومبادئ الإسلام، ومن أهمها، أن الأصل في المسلمين هو الإسلام وهذا يقين لا يتم إخراج مسلم منه إلا بيقين مثله، مع الحذر والتروي في الأفعال المرتكبة، فلعل مرتكبها يكون له تأويل أو عذر لم يتم الوقوف عليه. وتلك المقدمات في تساوق ومزامنة التسلسل في الأحداث كلها قائمة على ظن ضعيف، فلا يمكن إبطال اليقين الراسخ من أجل ظن ضعيف. كذلك فكرة تسلسل واقعة الإساءة للدين الإسلامي، هي في حقيقتها قائمة على فكرة الاستدلال باللوازم، وهي مسألة أصولية أسسها علماء الأصول، تحت مسألة «هل لازم القول هو قول بذلك اللازم»، وهي مسألة يستعملها كثير من أصحاب الفكر المتطرف. والصحيح أن لازم القول في مسائل الاعتقاد ليس بلازم مطلقًا، ولا يجوز أن تطلق أحكام التكفير تأسيسًا على فكرة القول باللوازم. هذا ما لم ينتبه إليه من تسلسل في فكرة أن القناة الفضائية قد ارتكبت الإساءة للدين، وتساقطت الاستدلالات فاسدة الاعتبار، وتم تنزيل آيات نزلت في المنافقين على رؤوسنا وقنواتنا الفضائية، وعلى كل ما يتعلق من الأقوال أو الافعال أو التصرفات التي فيها رائحة سعودية، فقد أنزلوا قوله تعالى (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) على القناة الفضائية، تلك آية من الآيات الواردة في سورة التوبة، التي كانت تُسمى الفاضحة لفضحها المنافقين في المدينة النبوية، فإنزالها على تصرفات المسلمين هو استدلال يتعارض تعارضًا واضحًا، لمخالفته أصول ومبادئ ومقاصد الشريعة، التي تتشوف لبقاء المسلمين على دينهم وحمل تصرفاتهم على محامل وتأويلات تجعلهم غير مرتكبين لأفعال الكفر أو الشرك، لاعتبارات مانعة من إنزال حكم الكفر، وهي التأويل والعذر بجهل حقيقة حكم الفعل المرتكب، وكذلك عذر الإكراه والضرورة. حشدوا أقوالًا للسلف في أنه لا يجوز نقد العلماء من أهل الدين، ومن ذلك استدلالهم بقول ابن عَسَاكِر: (إنَّ لُحُومَ العُلَماءِ مَسْمُومَةٌ)، وهذه العبارة نقلها في كتابه (تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري)، وذلك في الدفاع عن أبي الحسن الأشعري في خضم معركة كلامية، كانت ولا تزال مستعرة بين الأشاعرة وخصومهم، وخصوصًا أهل الحديث والحنابلة. بل إن هذه العبارة في الأصل، قصد بها كل من ينتسب لفكر الأمام أحمد من حيث إثبات الصفات وعدم تأويلها. وهذا المسار هو المسار المعاصر المعروف بالسلفية بجميع مدارسها العلمية والجهادية والسلفية التكفيرية المعاصرة. تم استجرار تلك المعارك القديمة إلى ساحات الفكر الإسلامي من قبل جماعات مسيسة، كي تكون مدخلًا وقناة للوصول إلى نقد الحكومات والسيطرة على حركة المجتمع الفكرية. تلك الضجة و«المعركة الإنترنتية»، لا شك أنه يقف وراء تمويلها دول معادية لهذا البلد الآمن والمستقر، لجعله مثل الدول التي سقطت وسقط أمنها واستقرارها. فعلى الرغم من الاهتزازات العميقة والسقوط السريع لتلك الدول من حولنا، بسبب البحث عن ديمقراطية وهمية تم تصويرها وتشكيلها في مخيلة أفراد مجتمعات تلك الدول، للتخلص من واقع كانت فيه أخطاء كثيرة وظلم، بيد أن تلك المجتمعات كانت تتمتع بركيزتين أساسيتين لبقاء المجتمعات الإنسانية، هما «الأمن والاستقرار». إلا أن تلك الدول الكارهة لأمننا واستقرارنا تعمل على إسقاط مجتمعنا بشتى الطرق، والمجتمعات إذا ما فقدت تينك الركيزتين، تغدو غابة كبيرة، يعتري من فيها الخوف والهلع والقتل والنهب والسرقة وكل ما يمكن أن يتخيله العقل البشري. فعبارة الحافظ ابن عساكر لا تستقيم مع الدولة المدنية الحديثة التي تقسم السلطات فيها إلى جهات مسؤولة لها الحق في النقد المطلق لمجريات الأمور والتصرفات والأحداث التي تكون في محيط مجتمعات الدول المدنية الحديثة. هناك السلطة التشريعية التي هي في الأصل، تعمل في مسارات عديدة، ومنها النقد وإظهار العيوب التي تظهر في المجتمعات من حين لآخر، لمعالجتها وإصدار التشريعات المناسبة، تأسيسًا على أصول ومبادئ الدولة المدنية الحديثة. وفي السعودية، تلك المبادئ والأصول متأسسة على الشريعة الإسلامية ومقاصدها، فمن خلال بيان التشريع المناسب لا بد من أن تتعرض السلطة التشريعية لبيان مذاهب وأقوال العلماء ونقد نظرياتهم وفلسفاتهم، كي يصلوا للتشريع اللائق بحركة المجتمع وتطوره. وكذلك السلطة القضائية عند إصدار أحكامها فإنها تتعرض لبيان الأقوال ونقدها والترجيح بينها، ثم الوصول للحكم القضائي المتناسب والمتوازن مع ظروف كل قضية. فلو أن تلك العبارة فهمت على إطلاقها، لأحجمت السلطات عن معالجة كثير من التشريعات، ولتعطل إصدار الأحكام القضائية بسبب الإحجام عن نقد وتفكيك أقوال العلماء الشاذة وغير العملية، والتي أضحت جسدًا ميتًا لانعدام ظروف تطبيقها، فما أصبح عدمًا فقد نُزعت منه صفة الحياة والبقاء. كذلك تلك العبارة لو تم تسليطها على الكليات العلمية والأكاديمية، مثل الأدب والشريعة وأصول الدين، لأحجم كثير من العلماء الأكاديميين الذين أفنوا أعمارهم في دراسة النظريات، عن بيان حقيقة تلك النظريات ونقدها وبيان عيوبها وإبراز حسناتها للطلاب الشغوفين للعلم.

وفي رأيي المتواضع أن عبارة ابن عساكر لا تستقيم وأصول ومبادئ ومقاصد الشريعة الإسلامية التي عندما حرمت الغيبة لم تفرق بين المسلمين، فغيبة المسلم حرام بإجماع الفقهاء قاطبةً، ولم يفرقوا بين فقيه أو عامي. هذه المعركة التي خاضها الفكر المتطرف انتصارًا للشيخ الألباني، معركة مفتعلة، بل يمكننا أن نقول إننا أدركنا زمنًا كان الطلاب الأغرار الصغار لديهم جرأة على الفتوى، وإلزام مجتمعاتهم بتصرفات وأحاديث شاذة، مثل تحريم الذهب المحلق (وهو قول اشتهر به الشيخ الألباني)، والقول بتحريم الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة (المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى)، وهو قول شاذ أخذ به الشيخ الألباني. وكذلك القول ببدعية صلاة التراويح عشرين ركعة، وهو قول شاذ، أخذ به الشيخ الألباني، بل نصره، وكان أتباعه يبدعون كل من يصلي التراويح عشرين ركعة، وهذا شيء أدركناه. وكذلك القول بوجوب أداء الحج بطريقة التمتع، وعدم جواز غيرها، وهو قول شاذ، وغيرها من الشذوذ في القول مما تبناه الشيخ الألباني. علمًا أن ما لم تقله القناة الفضائية أن أثر الشيخ الألباني في أنه خلق نَـفَـسـًا لدى الشباب المتدين، وهذا النفس امتد وتجذر لدى جميع الجماعات الجهادية والتكفيرية. ذلك النفس الألباني تمثل في الجرأة على الفتوى وفكرة التمسك بظاهر النصوص، وعدم التقيد بالمذاهب الفقهية المعروفة، والغلو في نبذ التقليد، حتى اشرأبت نفوس الأغرار بفكرة القدرة على فهم النصوص دون التفقه بكتب الفقهاء، أو تحصيل علوم الآلة من أصول فقه ونحو وصرف وبلاغة ومعرفة علوم القرآن والتفسير. فالشيخ الألباني فيما أدركناه من زمن، كان العامل الرئيس. في جعل الأغرار الصغار يتجرؤون على الفتوى والتضليل والتبديع والتفسيق ورمي الناس بالخروج والمخالفة للسنة النبوية. بل إن أخطر ما أنتجه الألباني من أثر، هو فكرة أخذ أحكام الكتاب والسنة مباشرة منهما، دون الرجوع لما سطره العلماء والفقهاء في كيفية أخذ الأحكام التشريعية، وهذا الأثر كان عاملًا رئيسًا في انتشار الفكر المتطرف لدى الجماعات الجهادية والتكفيرية. هذه شهادة حق أقولها لأننا أدركناها ورأيناها وشاركنا في محاورات ومناظرات مع طلاب للشيخ الألباني ومع اتباعه، فقد كانوا يتصفون بتلك الصفات التي ذكرناها آنفًا.

لذا فإن القناة الفضائية لم ترتكب ذنبًا ولا شذوذًا وإغرابًا.