ليس هناك ما كذبه التاريخ مثل مقولة كبلنج Kipling بأن «الشرق شرق والغرب غرب، لا يلتقيان»، فهما يلتقيان في هذا العصر في أعنف مواجهة حضارية هزت الشرق في الصميم، وهو لقاء محفوف بمشاكل وتيارات بالغة التعقيد والتداخل، لا مجال للخوض في تفاصيلها هنا، ولكنا نتناولها بالقدر الذي يهيئ لنا الخلفية الضرورية لفهم حركات التطور والتجديد الثقافية والموسيقية في أكثر شعوب المنطقة اتصالا بحضارة الغرب وتفاعلها معها وبها.

هذا وليس هناك اتفاق تام على تعريف مفهومي «الحضارة» Civilization والثقافة Culture، وربما وجدنا إيضاحًا للمفهومين عند علماء الاجتماع، فمنذ ظهور حضارة الغرب العلمية التكنولوجية، سادت في العالم «حضارة» واحدة هي الحضارة الغربية، ولكن العالم ما زال يحتفظ بتعدد الثقافات (رغم طابع العالمية السائد في هذا القرن)، وهذه الثقافات هي محور بحثنا في تناولنا للقاء الشرق بالحضارة الغربية، وما أسفر عنه من استجابات وردود أفعال ثقافية وفنية.

وليس بوسعنا هنا أن نرصد العوامل التي مهدت لهذا اللقاء والمواجهة بين الشرق والغرب تفصيلا، ولكن الذي لا خلاف عليه أن المنجزات التكنولوجية للحضارة الغربية، قد لعبت دورًا خطيرًا في تصعيد تلك المواجهة، بإلغاء حواجز المسافات بحيث أصبح العالم أشبه بقرية صغيرة يستطيع المرء أن ينتقل -ماديا- من أقصى أطرافها للآخر في ساعات، وأن ينتقل -روحيا- بالسماع ومشاهدة ما تبثه إذاعات العالم المسموعة والمرئية (التليفزيون) في نفس وقت إرسالها (الأقمار الصناعية) من أي بقعة في العالم، وأصبحنا نعيش اليوم «حضارة عالمية» World Civilization بما لم يسبق له نظير.. فمن كان يتخيل، في عصر كبلنج، أن وسائل الاتصال الجماهيرية Mass Media ستأتي بأفكار الغرب (وسياساته) وفنونه وموسيقاته (كلاسيكية وترفيهية ودينية وراقصة.. إلخ) إلى عقر دار الشرقيين (وغيرهم) لترسب في وجدانهم قيما فنية غريبة على ثقافتهم ومختلفة بل مضادة لعالمهم الفني والموسيقي، بسماعياته وتقاسيمه ولياليه وأغانيه الشعبية، وهذه ليست إلا بعض الظواهر المادية لتكنولوجيا الغرب وحضارته، التي اقتحمت الشرق وزلزلت حضارته المستقرة عبر قرون، وعرضته لازدواجية عنيفة في مواقفه إزاء الغرب من جانب وإزاء تاريخه وواقعه من جانب آخر.

ففي العصر الذي حشدت فيه شعوب الشرق كل قواها للتخلص من الاستعمار والاستغلال الغربي، ووجهت بتقدم حضارة الغرب علميا وتكنولوجيا بما فرض عليها أن تسارع -كغيرها- للأخذ بأسبابه ومحاولة اللحاق بتطورات التصنيع والتحديث، وهكذا تصاعدت حدة المواجهة بين الشرق والغرب، وتعقدت المواقف والعلاقات بينهما تعقيدا أدى لتخلخل خطير في مسلمات الشرق.

ومثل هذه التحولات الاجتماعية العنيفة تولد عادة موجات من الاعتداد القومي تتجه فيها الشعوب للبحث عن هويتها الثقافية، بالنظر للداخل والماضي والتاريخ، لتعيد اكتشاف تراثها الثقافي برؤية جديدة، وقد أسفرت تعقيدات اللقاء المعاصر بين الشرق والغرب عن هذا التيار القومي الذي نلمسه بصور مختلفة عند شعوب الشرق العربي والإسلامي اليوم، فهي تحتمي بوعيها الجديد بثقافتها، لتحافظ به على توازنها الروحي، في سباقها المحموم لملاحقة حضارة الغرب العلمية، كما تلتمس في تراثها الثقافي منابع قومية لفنون جديدة أصدق تعبيرا عن الإنسان الشرقي ومجتمعاته المعاصرة، التي تعاني آلام النمو، وتئن تحت عثراته وتحلم بتحقيق منجزاته.

ومن ثنايا هذا اللقاء التاريخي (العاصف) بين الشرق والغرب بدأت تخرج للوجود في عصرنا فنون شرقية جديدة خاصة في الأدب: في الشعر الحديث والمسرح، وفي العمارة بتطوراتها المعاصرة، وفي التشكيل في مدارس التصوير والنحت (وتطورات الفنون التطبيقية الشرقية لملاءمة احتياجات العصر) وفي الموسيقى: في التحول من «التلحين» (اللحن والإيقاع وحدهما)، إلى «التأليف الموسيقي» بلغة ثلاثية الأبعاد: اللحن والإيقاع والتكثيف النغمي (هارمونيا وبوليفونيا).. وفي هذه الفنون جميعًا، ومنها الموسيقى، إدماج للمضمون الشرقي مع وسائل الصياغة الغربية. وكان هذا الاتجاه في موسيقى الشرق إحدى الحلقات الإيجابية للقاء الشرق والغرب.

فقد اتجه بعض المؤلفين الغربيين، في غمار بحثهم المثير عن مصادر جديدة للرنين الموسيقي، نحو الشرق وموسيقاته وظهرت في نفس الوقت بوادر اهتمام ثقافي وتعليمي بالموسيقات «غير الغربية» Non- Western Musics كمصدر لإثراء الموسيقى الغربية المعاصرة في أوروبا وأمريكا، التي أدرجت دراساتها بأغلب جامعاتها، وفي أوروبا تدرس هذه الموسيقات في بعض مدارس التعليم العام (مثل ألمانيا «الغربية»، والسويد وغيرهما)، حتى أنها أصبحت موضة ثقافية في الغرب في عصرنا، وهذا في ذاته تحول مهم يستحق التسجيل والمتابعة في علاقات الشرق والغرب الموسيقية.

ولكي ندرك الأبعاد الحقيقية لأصداء القومية في الشرق اليوم، فلابد في البداية من عرض ملخص لخصائص التراث التقليدي وهو غالبًا معروف للقارئ، لكنا نريد به إيضاح طبيعة المشاكل الفنية التي تواجه ما تنشده المدارس القومية في الشرق من تطوير، مما يختلط أحيانًا عند البعض مع تيارات «التغريب» والتهجين.

1991*

* مؤرخة موسيقية مصرية " 1925 ـ 2006"