كان «بروكرست»، الحداد، شخصية مهمة في الأساطير اليونانية، وبما أنه أيضا ابن لـ«بوسيدون»، فلم يكن حدادا وحسب، بل كان أيضا لصا وقاتلا، وصاحب خان يقدم الضيافة للغرباء الذين يمرون به على الطريق الجانبي بين «أثينا» و«إليوسيس»، وكان لديه سرير خاص مصنوع من الحديد، يعرضه على عابري الطريق، وكان يحب التباهي بأن طول السرير كان دائما مطابقا لأي شخص يستلقي عليه، بمعنى أن سريره كان قابلا للتعديل، ليتناسب مع جميع احتياجات الزبائن الذين ينامون عليه.

الآن كيف تمكن «بروكرست» من تفعيل هذه الحيلة؟. الأمر بالنسبة له كان بسيطا جدا، فهو لم يقم بتعديل السرير، بل النائم على السرير. هل كان السرير طويلا؟، لا مشكلة يمدد «بروكرست» جسد الزبون، ليتناسب مع طول السرير. هل كان السرير قصيرا؟، لا مشكلة أيضا، يقطع ساقي الزبون، لتتناسبان مع طول السرير!، ودائما ما كان ينتهي إلى «بروكرست» ما يمتلكه القتيل من أموال أو ممتلكات، والمحظوظ فقط من كان السرير مطابقا لطوله!. وهنا يدخل على الرواية أو الأسطورة شخصية «ثيسوس»، ابن آخر لـ«بوسيدون» ومؤسس وملك «أثينا»، الذي من أجل استحقاق تاج حكم «أثينا» كان عليه قتل «بروكرست»، فكيف تغلب عليه؟. أرغمه على جعل جسده مناسبا لسريره، تماما كما كان يفعل مع الغرباء من زبائنه حسب المقولة «دع العقوبة تتناسب مع الجريمة». ومن هنا أصبح سرير «بروكرست» يضرب به المثل على إجبار شخص ما أو شيء ما على التكيف مع مخطط أو نمط غير طبيعي بشكل تعسفي، وربما بلا رحمة.

قد يتساءل البعض: حسنا ما علاقة هذا بموضوع المقالة (فرض المشكلات في قوالب وحلول مسبقة)؟. أحد أخطاء المسؤولين أو المديرين التنفيذيين في المواقع، التي من المفترض أنها خصصت لمصلحة المواطن، هو محاولة فرض المشكلات في قوالب وحلول مسبقة، أو محاولة فرض المشكلات في قوالب قرارات حديثة، لم تتم دراستها أو إعطاؤها الاهتمام اللازم من دراسة تأثير نتائجها المتوقعة على جميع الشرائح، وليس على شريحة واحدة فقط. عند مواجهة أي مشكلة، الحرص والاهتمام يفرضان على المشرع التفكير بعناية، وإيجاد الحلول التي تناسب الجميع بدلا من إدخالها في إطار حل مدرج مسبقا. صحيح أن القوالب والنماذج ليست جميعها غير مفيدة، ولكن يجب التأكد من أنها تتناسب مع الظروف التجريبية، أي على أرض الواقع وليس العكس.

من السهل جدا اتباع نهج «بروكرست» في حل المشكلات وتعديلها، لتتناسب مع الحل، وللأسف ما يظهر على الساحة، من تعقيدات وخسائر في المواهب والقدرات، يدل على أن الكثير من المسؤولين لدينا غالبا ما يتعاملون مع القضايا الصعبة - ما يخص الهيئة الأكاديمية كمثال وليس الحصر - من خلال محاكاة رؤية تلك الشخصية المضللة؛ قم بتمديد تلك المشكلات حتى تناسب السرير، أو أقطع الأرجل غير المناسبة!، وللأسف، فإنهم غالبا لا يبدو عليهم أنهم يعرفون متى يقومون بهذه الأنواع من الإجراءات، والذي يقهر حقا أنهم لا يشعرون بأي علامات الندم أو الإحباط عندما تنكشف لهم ميولهم «البروستية»، إذ يفضلون الاستمرار والإنكار على الاعتراف والتصحيح.

المشكلة لا تتعلق بالإدارة فقط، بل يمكن رؤيتها في العديد من المستويات، من بيئة العمل اليومية إلى العالم من حولنا، حيث يعيش «بروكرست» وسريره، وهنا من الضروري البقاء على يقظة تامة، للتمكن من التعرف على فخ محاولة مطابقة الأدلة في سرير حديدي من الحلول أو الأفكار أو المعتقدات المسبقة والملائمة، فغالبا ما يكون من السهل رؤية مجموعة جديدة من الحقائق التي تؤخذ على أنها تناسب نمطًا مألوفًا، ومع بعض التغييرات هنا والتحويرات هناك، وقطع هنا ومد هناك، يستمر العمل حتى تتناسب مع ذاك النمط.

نعم قد نجد في بعض الأحيان أنه قد يتناسب ظاهريًا السرير مع المشكلة، ولكن من المهم أن ندرك خطورة أنه غالبا لا يكون كذلك، وسوف تكون نتائج محاولة ملائمة الحقائق - حسب تصوراتنا - مضللة وخطيرة، ليس فقط على مستوى المؤسسة، بل على مستوى المستفيدين من داخل المؤسسة وخارجها، وأنفسنا أيضا، فنحن لا نريد أن يصل بنا الأمر إلى المصير نفسه الذي انتهى إليه «بروكرست»، فبعدما تقدمنا بسريرنا كحل، سنضطر يوما إلى التمدد فيه، وربما نُمد أو نُقطّع حتى نتناسب مع طوله!، فلنفكر جيدا ومليا قبل أن نمسك بخيوط مصائر الغير، ونُقصها ونُمدها، لتتناسب مع قراراتنا، فمن يدري قد يأتي يوم ونجد أن خيوطنا أصبحت بيد «بروكرست» آخر!.