سأحدثكم الليلة في موضوع قريب منا كلنا بلغة تسمعونها كل يوم وبعبارة تفهمونها وأنتم إلى أشغالكم سائرون. موضوعي «قيمة الحياة» وأحب أن أسدل بادئ ذي بدء ستارا على الماضي وآخر على المستقبل فأحصر الحياة في الحاضر وأسألكم سؤالا: لو علمتم حق العلم أن الحياة صدفة من صدف الطبيعة وأنه لا سابق قصد لها ولا لاحق– لا قوة مدركة وراء المهد ولا وراء اللحد فترسلها وتبعثها عقلا وروحا– وكلمة أخرى لو تأكدتم أن الحياة محض مادية والموت ضجعة أبدية، كيف تعيشون يا ترى، وكيف تعملون لترفعوا من قيمتها وتجنوا الناضج اللذيذ من ثمارها؟

أتجعلون قاعدتها الأساسية قاعدة التجار والمتمولين أنه لا حقيقة في العالم إلا المال؟ أتقولون قول السياسيين والمسيطرين إنه لا حق في العالم إلا القوة؟ أتذهبون مذهب فلاسفة اليونان الكابيين أنه لا حقيقة في العالم إلا اللذات، أو تقولون قول حشاشي الزمان القديم، إنه لا حقيقة في العالم على الإطلاق وكل شيء مباح؟ لو تأكدنا أن الكون مركب من المادة والقوة فقط وأن الحياة كذلك. أينبغي أن نعيش كالحيوانات؟ وإن نحن فعلنا أنأمن شر أنفسنا إن لم أقل شر الأقوياء فينا؟ إذا أحب أحد الناس أن يعيش كما لو كان هو العالم وبيته الدنيا واستطاع إلى ذلك سبيلا أيستطيع أن يذهب على هواه دون أن تذهب حياته فريسة الأهواء والشهوات؟ لو ضحاني هذا السيد العظيم الأثيم وضحا كم على عرفات قدسه ومجده وأطماعه أيأمن يا ترى صولة الجماعات حين يستيقظون وينهضون؟ آمن هو ويد فوق يده تأخذ بناصيته يوم يأثر الحق بأعدائه؟ حكم عبدالحميد ثلاثا وثلاثين سنة وهو لا يحسب أن في العالم من ينبغي أن تراعى حقوقهم وحياتهم سواه فماذا كانت عاقبة بنيه وجوره وأثرته

لا أنكر أن نظرة عمومية سطحية في أحوال الإنسان الاجتماعية ترينا الشرير يسعد بشره والصالح يشقى بصلاحه، ولكن ذلك لا يكون إلى الأبد، وإنما يظهر كذلك لمن لا ينظر في الأمور إلى ما وراءها.

لمن لا يرى في الحياة غير ظواهر الحوادث. مات كثيرون ممن قاسوا أليم العذاب من الدور الماضي دون أن يشاهدوا نكبة سلطانه وأعوانه.

ماتوا وهم يائسون من الحياة التي ينتصر فيها مثل هؤلاء الأشرار الكبار، ولكن قصر نظرهم فيئسوا. ولو تشوفوا إلى المستقبل وكان إيمانهم شديدا بالعناية التي لا تترك الأثيم عزيزا إلى الأبد لما ماتوا يائسين. إن ما نراه نحن اليوم مثلا ونفر منه ساخطين حانقين يراه غدا آخرون فينجلي لهم فيه اليقين. إن شر الأمس ينتج اليوم خيرا وخير اليوم قد ينتج غدا شرا

إن في الاشياء والأكوان عناية لا يعقلها الإنسان ولا يدركها أرباب العرفان. في الحياة أسرار تدك العروش وتزعزع الجبال لو تجلت كلها دفعة واحدة في وقت واحد، ولكنه تعالى عليم رحيم وهو لا يمكننا إلا مما نحتاج إليه من القوات الخفية في الحياة نستخدمها في منفعتنا ونقف صابرين هادئين ثابتين أمام مقذعات الوجود ومبهجاته. وعندي أن هذه الأسرار تتجلى للإنسان تدريجيا على حسب ارتقائه العقلي والروحي. ذلك لأن الحياة سلم أوله الحيوان ووسطه الإنسان وآخره الملاك.

وقد يأتي يوم يشاهد فيه أبناء الأرض رجل المستقبل العظيم وقد ترقت فيه القوى الحيوية كلها، أي القوى الحيوانية والبشرية والإلهية إلى منتهى الدرجات.

الإنسان مركب من هذه كلها وقواها كامنة فيه إلى الأبد. فإن رعى إحداها دون الأخرى يقف في سلم الارتقاء وطبائع الحياة فيه ناقصة فاسدة.

نعم إني ممن يعتقدون بالنشوء والارتقاء، ولا حاجة إلى أن يؤيد العلماء اعتقادي. فإني لمؤيده بما أعرفه وبما أجهله من لوح هذا الوجود.

من الحياة ومن الأكوان.

في نشوء الأنواع وارتقائها عناية إلهية عظيمة. والناموس الطبيعي الذي يكثر من ذكره العلماء إنما هو مشيئة الله في الأشياء.

إني لأرى يد الله في كل مظهر من مظاهر الحياة، وأؤمل أن أرى ولو بعد موتي بمليون من السنين، روح الإنسان متجلية في كل مظهر من مظاهر الله.

أراني تجاوزت الحدود الوهمية التي حصرت هذا الوجود ضمنها فأصبحت والماضي والمستقبل يتجاذبان في المعقول والمحسوس.

1922*

* أديب لبناني «-1876 1940»