أعتقد أنه في مجال التكنولوجيا، لا يوجد عصر أكثر سحراً وجمالاً من الحاضر، ففي عصر التقدم التكنولوجي والاتصالات الفورية، أصبح العالم في متناول أيدي الجميع، يقع طفل وينجرح في نيويورك تسارع إلى مواساته جدته في القاهرة. تحتار شابة أي حذاء تبتاع، تدخل معها صديقاتها من حول العالم على الخط ويساعدنها في الاختيار، تتزوج فتاة في بيروت شابا في لندن، والشيخ في دمشق والحضور موزعون ما بين جدة ودبي وباريس وسيدني. المدير يرأس اجتماعا والجميع يحضر، كل من منزله دون أن يتزحزح أحدٌ من مقعده أو بيته!.

بفضل هذه الأجهزة يمكننا الآن الوصول بسهولة إلى أي شخص تقريبا، في أي جزء من العالم، فمن كان يظن أن أيا من روائع التكنولوجيا الحديثة هذه سوف تكون ممكنة، حتى قبل عقد قريب من الزمان؟!. ولكن، ومن المفارقات، أنه برغم أن الاتصال أصبح سريعا وفعّالا وفوريا، إلا أننا نجد التباعد والوحدة قد وصلا إلى حد يثير القلق، فبينما يصغر العالم نبتعد نحن، وتستوطن الوحدة حياتنا.

استسهلنا التواصل وقلت حاجتنا للاتصال الحقيقي وجها لوجه، واستبدلناه بعالم الإنترنت، فتضاءلت فرصنا للتفاعلات البشرية، مثل التحدث إلى صديق في العمل، أو لقاء زميلة في المكتبة، أو التعرف إلى الحضور في مؤتمر من خلال أحاديث جانبية في الرواق أو قاعات الاستراحة، أو إجراء حديث عابر مع غريب في قاعة انتظار. أصبحت كل الأنشطة متاحة على الإنترنت، من المهام اليومية مثل التسوق والخدمات المصرفية، والعلاقات الاجتماعية، حتى الفعاليات الترفيهية والثقافية والعلمية، وعليه أصبحت مجتمعاتنا أكثر فردية وأقل تماسكًا.

هنا تخطر على بالي مقولة إسحاق نيوتن: «نحن نبني الكثير من الجدران والقليل من الجسور»، نعم قد تكون التكنولوجيا أزالت الجدران فيما بيننا، ولكن هذه ليست الحقيقة أو لنقل الواقع، لأن ما أزيل هو الوقت والمسافة والتكاليف، إن شئتم أخذها في الحسبان، أما الجدران فما زالت في مكانها، بل نعمل على بنائها ونحرص على ارتفاعها أكثر فأكثر. نرتدي الأقنعة حتى لا يرى الآخر، أي آخر، ما هي حقيقتنا أو ما يدور داخل أنفسنا، وغالبا ما لا يكون وسيلة للخداع، بل وسيلة للحماية، فالغريزة الأولى للبشر هي حماية أنفسنا، فلقد بنينا لقرون عدة جدرانا، إيمانا منا بأن هذه هي الطريقة الأفضل والأكثر فاعلية للبقاء في أمان. وعلى الرغم من أن بناء الجدران لحمايتنا لا يزال غريزة بشرية، فإن بناء الجسور ليس كذلك، فنهمل الثاني ونركز على الأول، ولهذا نجد أن شيئًا ما يؤرقنا وبأن هنالك نقصا ما، لماذا؟، لأنه يبقى ذاك الشعور الفطري، تلك الميول الفطرية التي تخبرنا غريزيا أننا بحاجة للتواصل الشخصي، المواجهة الفعلية وليس عبر الإنترنت، وعليه تجد أنه بالرغم من البقاء على اتصال دائم عبر الإنترنت، هنالك فراغ داخلنا، يشعرنا بالصراع وعدم الاكتفاء والوحدة، بل بتعطش دائم دون ارتواء، وهذا لأننا نجهل حقيقةً كيف نبني الجسور.

إن تلك الجدران، الأقنعة، لا تحمينا حسبما نتوقع أن تفعل، بل تعزلنا عن كل من نتواصل معه، عندما لا نسمح لأحد بأن يدخل، هذا يعني أن لا شيء عنا يخرج، وإن حدث وأدخلنا أحدهم فنحن نضع على كتفيه مهمة صعبة، وهي قضاء الوقت في محاولة تحطيم الجدار، بدلا من التعرف على كل الأشياء الجميلة التي نحملها خلف الجدار.

في هذه الأيام، هنالك انقسامات حادة بين الناس لأسباب عدة منها السياسة، والعرق، والدين، والطبقة الاجتماعية، ومكان الإقامة، والخلفية الثقافية والمرجعية الفكرية، وما إلى ذلك. المهم هنا أن تلك الانقسامات مفجعة، ويبدو للمرء بمجرد الاطلاع عليها، أنه من المستحيل التغلب عليها، لكن لا بد من أن هنالك قليلاً من الأفراد أو المؤسسات، التي تربط بين هذه الجدران، أي تعرف كيفية بناء الجسور. نحن بحاجة الى البحث عنهم حتى نتمكن من اتباع الطرق والإستراتيجيات، التي يستخدمونها، وفي الوقت نفسه ألّا نضيع وقتنا ونبدأ بالبحث عن كل فرصة، لإيجاد أرضية مشتركة مع أولئك الذين يختلفون عنا أو معنا. نعم الأمر لن يكون سهلا، فبناء الجسور ليس بسهولة بناء الجدران، ولكنها على الأقل خطوة أولى، نبدأ من خلالها بالبحث عن الخير في كل الناس، ومن ثم نتجه إلى العثور على البرامج والأشخاص، الذين يعرفون كيف تبنى الجسور، إن لم ندعمهم على الأقل نتعلم منهم. يقول أحد المفكرين إن نوعية حياتك هي نوعية علاقاتك، لهذا السبب يجب أن تقضي وقتك في بناء الجسور بدلا من الجدران، فعندما تبني الجسور فأنت حرفيا تبني حياة أفضل، فالإنسان كائن اجتماعي، ويعيش بشكل أفضل داخل المجتمع من العيش بمفرده، ولهذا تساعدنا الجسور ليس على التواصل فقط، بل أيضا على التعاون معا، لإنتاج أكثر مما يمكننا إنتاجه بمفردنا.

والآن فكر واسأل نفسك: ما هي الجدران التي بنيتها حول ذاتك أو عائلتك أو مؤسستك، لإيمانك بأنها تحميك أو تحميهم؟، وما هي الطرق التي من خلالها تستطيع أن تبني جسورا؟ وقبل ذلك كله: هل أنت مؤمن بأن هنالك جدرانا أصلا؟!.