خلال الأسابيع الماضية استمعت لكثير من الحوارات لعدد من الشخصيات السعودية والعربية يتحدثون فيها عن الصراعات الفكرية في العالم العربي والإسلامي وكيف دخلت إلى مجتمعاتنا الخليجية وتسللت بخفة متنكرة بشعارات مختلفة عنوانها الظاهر الدين والمصلحة المجتمعية العامة، بمحتوى امتلأت ما بين سطوره بأهداف مستترة تخدم مصالح خاصة وأجندات خفية تتحكم برفع أصوات وإخفات أصوات أخرى دون وضع أي اعتبار صادق لدين أو عقيدة أو أمة تجمعهم، إنما هي أبواب استخدمت للوصول إلى عمق العقول لإحداث شقوق في نسيجها الفكري يسهل من خلالها رتقها بما يخدم مصالحهم المختلفة.

الاقتراب من هذا العالم من خلال البرامج الحوارية المختلفة شدني كثيرا لأتجاوز شاطئ المعلومة إلى العوم وسط مضمون هذه التيارات لأعرف عنها أكثر ولأفهم بشكل أعمق عوالم فكرية نسمع عنها كثيرا ولكن لا نعرف الفرق بينها ولم نصل إلى عمق أهدافها، السرورية والإخوان والتبليغ وغيرها من المسميات لفرق وتيارات وأفكار اختلفت في الشكل ولكنها اتفقت في المضمون السلبي الذي يعود على المجتمع بتغلغلها فيه في غفلة من أفراده الذين خدعتهم نورانيتها الكاذبة إلى الحد الذي أصبحوا فيه بعلمهم أو بجهل منهم جنودها الذين يخدمون مصالحها بتدرج يبدأ من التقديس لشعاراتها التي غالبا ما تأتي بريشة تعزف على وتر العاطفة الدينية فتوافق دون تفكير على منهجهم ولا تستنكره، وانتهاء بمن يبيعون دنياهم بآخرتهم فيقدمون أرواحهم فداء لها ليخرجوا من الدنيا التي هي سجن المؤمن وجنة الكافر طمعا في الفوز بالآخرة التي حتما لم يجعل الله الفوز بها بقتل النفس وسرقة العقول وترويع الناس وزعزعة أمن المجتمعات والأوطان.

هذه الحوارات الثرية بمحتواها الذي يكشف ما استتر تحت الأقنعة جعلني أتساءل.. لماذا نحن مجتمع سهل الانقياد، لماذا نحن مجتمع يستخدم عقله بطاقة تفكير منخفضة جدا بحيث لا تستطيع التفريق بين السم والعسل في مائدة الفكر العامرة بأطباق فكرية مختلفة نُكهت بالدين ليستلذها المتلقي دون أن يستطعم فسادها الذي يسمم أمن المجتمع ويضر بأساسات الوطن، لماذا كنا نتأثر كمجتمع بالصوت المقبل من الخارج ونسلم عقولنا له ونتبعه ونؤمن على فكره وقوله دون البحث عن تفسيرات أو الخوض في عمق الفكر.

هل هي فطرتنا السليمة النقية، وثقافتنا المجتمعية التي تجنح إلى السلم وتكره العنف هي التي جعلت أفئدة جيل سابق تهوي إلى تلك التيارات الفكرية وتعطيهم صلاحية رسم المشهد العام وتسلمهم أبناءها حبا وكرامة برغبة صادقة لوضعهم على طريق الهدى الذي اتضح بعد عقود من الزمن أنه طرق هوى أبعد ما يكون عن الهدى!

مما أثار استغرابي أيضا أن هؤلاء الرموز الذين نصبوا بتأييد مجتمعي ليكونوا قدوات للناشئة الذين يمشون بخطى حثيثة نحو الشباب الذين تبنى بهم الأوطان وتنمو وتستقر، قدوات لها أخطاء فادحة وواضحة، ولكنها ذنوب مغفورة مجتمعيا وأخطاء وتصرفات ما اعوج فردها إلا لتستقيم الجماعة والمجتمع من وجهة نظرهم!

الربت على العاطفة الدينية جعل المؤامرات تتوالد لتسيس أفكارنا للدخول في معترك صراعات لا ناقه لنا فيها ولا جمل، وكأن العالم في غيبوبة لن يصحو منها إلا من خلال مجتمعنا! أمور كثيرة وتطرف عشناه كاد يودي بنا إلى الهاوية بتجاوزاته وتعديه على الحريات والخصوصيات بدافع ظاهره الخير والبحث عن الأجر وباطنه ترويع مبطن وفرض سيطرة يقصي بها كل من يخالف بقلب المجتمع عليه لحد التكفير والنبذ والتشكيك!

بعد تلك الجولة التي امتدت لأسابيع طويلة بين أروقة «يوتيوب» وعلى مدرجات البرامج الحوارية التي ضغطت على عصب تخصصي في الخدمة الاجتماعية لأطرح على نفسي أسئلة أحببت أن تشاركوني بها.

كيف تعالج الهشاشة الفكرية بحيث نمنح فكرنا المجتمعي مرونة يحتاجها دون أن نكسر ثوابتنا أو نصيب قيمنا بشُعر ثقافي؟

كيف نفعل دور علمائنا الأفاضل والنخب المثقفة والأكاديمية ومتخصصي النفس والاجتماع ليكون لهم الصدارة في الظهور بالمشهد الحالي لنسرع بترميم التصدعات الفكرية من أجل حماية أهداف وطنية كلنا نراهن عليه بعد حماية الله، تعالى.

جزء من الحل يتمثل في رؤية سمو ولي العهد الواعدة من خلال الوعي بها والفهم العميق لأهدافها، والجزء الآخر يتمثل في تشابك النوايا والأيدي قيادة وشعباً ومؤسسات رسمية وخاصة من أجل ترجمة إيماننا بأهدافنا الوطنية واقعا نعمل كلنا من أجل تحقيقه بخطوة تبدأ من تحديثات فكرية تحافظ على العقيدة والجذور بمرونة تواكب المتغيرات، وببناء فكري معالج من تلفيات الانغلاق ورفض الانفتاح على الثقافات الأخرى وغيرها من المسارت التي تصل بنا إلى مجتمع سليم عقائديا وفكريا قادر على العمل بدافع الحب لله ثم المليك وللوطن والنهوض به من أجل استقرار وأمن نستحقه، وعلو يليق بنا كدولة وقيادة وشعب.