الحديث الذي أدلى به سمو ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان للقناة السعودية، في السابع والعشرين من أبريل الماضي، ونقلته مجموعة من القنوات العربية، بمناسبة مرور خمسة أعوام على إطلاق «رؤية السعودية 2030»، تضمن عدة محاور من محاور الرؤية المباركة. ولعمري فهي محاور، من الجدة، والابتكار، والاكتناز المعرفي، وعظمة الرؤية، وتبحر المتكلم، تحتاج إلى عدة مجلدات لاستنتاج ما حملته من تأصيل شرعي فريد من نوعه، للمنهج الذي ستسير عليه السعودية من الآن فصاعدا، فما بالك بمقالات في صحف سيارة، لن تستطيع مهما ما أوتيت من قدرة تحليلية إلا على شرف الاقتراب قليلا من حماها. ولذلك، فسينحو هذا المقال منحى اجتزاء محور، أو محورين فحسب ليسلط عليه، أو عليهما أضواء لن تكشف أكثر مما كشف عنه حديث الرجل الثاني في السعودية، ولكنها تبقى مجرد احتفاء بمنهج جديد، ورؤية متقدمة، وآمال عظام تتكئ على منهجية استدلالية مقاصدية.

قال سموه في معرض حديثه عن أحاديث الآحاد: «وهذا الحديث (=حديث الآحاد)، غير ملزم بإلزامية الحديث المتواتر، إلا إذا اقترن بنصوص شرعية واضحة وبمصلحة دنيوية واضحة، خاصة إذا كان حديث آحاد صحيحاً، وهذا يشكل أيضاً جزءاً قليلاً من أحاديث الرسول».

حديث الآحاد المعني بحديث ولي العهد، هو الحديث الصحيح، وهو الذي انطبقت عليه شروط الجرح والتعديل، بحسب كل محدث. وهذا، كما قال سموه، غير ملزم، إلا إذا اقترن بنصوص شرعية واضحة، وبمصلحة دنيوية.

قد يكون حديث الآحاد صحيحا من منظور سنده، أي من ناحية الرواية؛ ولكنه غير صحيح من ناحية الدراية؛ أي من ناحية مضمونه. والسؤال هنا: متى يكون حديث الآحاد الصحيح من ناحية السند، صحيحاً من ناحية الدراية؟

يكون حديث الآحاد صحيح الدراية، بعد صحته رواية، إذا سلم من الشذوذ، أي سلم من مخالفته لما هو أوثق منه. بمعنى أن صحة سند الآحاد، لا تكفي للأخذ به، خاصة في باب المعاملات، إلا إذا سلم مضمونه من الشذوذ. وفي هذا المعنى أكد شيخ المحدثين في وقته، (الخطيب البغدادي ت 1071م)، في كتابه المشهور «الفقيه والمتفقه» على أنه «إذا روى الثقة المأمون خبراً متصل الإسناد رد بأمور:

أولها: أن يخالف موجبات العقول، فيعلم بطلانه؛ لأن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول، وأما بخلاف العقول فلا.

ثانيها: أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة، فيعلم أنه لا أصل له، أو منسوخ.

ثالثها: أن يخالف الإجماع، فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له.

رابعها: أن ينفرد الواحد برواية ما يجب على كافة الخلق معرفته، فيدل على أنه لا أصل له؛ لأنه لا يجوز أن يكون له أصل، وينفرد هو بعلمه من بين الخلق العظيم.

خامسها: أن ينفرد واحد برواية ما جرت العادة بأن ينقله أهل التواتر، فلا يقبل؛ لأنه لا يجوز أن ينفرد في مثل هذا بالرواية» اهـ.

ماذا نستنتج من الشروط التي وضعها شيخ المحدثين البغدادي لقبول مضمون حديث الآحاد؟

سوف نستنج أن هذه الشروط خاصة بالحديث صحيح الإسناد؛ نعرف ذلك من قوله «إذا روى الثقة المأمون خبراً...». فالرواة ثقات ومأمونون، ولكن ذلك لا يكفي لقبول مضمون الحديث، ما لم تتحقق فيه تلك الشروط التي ذكرها؛ وأبرزها عدم مخالفته للقرآن.

إن ثمة عدداً لا يستهان به من أحاديث الآحاد التي تخالف صريح القرآن؛ ومع ذلك يؤخذ بها بحجة متهافتة، بل منكرة؛ وهي الزعم بأن أحاديث الآحاد يمكن أن تنسخ القرآن. وهذه، في نظري، سقطة عظيمة، إذ كيف لخبر ظني أن ينسخ قرآناً نزل من رب تعهد بحفظه إلى يوم القيامة؟

وعودة إلى حديث سمو ولي العهد، إذ اعتبر سموه أن إيقاع عقوبة شرعية ليس فيها نص من القرآن أو من السنة المتواترة تزييف للشريعة، «فالله، سبحانه وتعالى، عندما أراد أن يعاقب على جرم شرعي نص عليه، وعندما حرم شيئاً ووعد بالعقاب في الآخرة لم ينص ويأمرنا كبشر بأن نعاقب عليه؛ وترك الأمر للفرد أن يختار وحسابه يوم الدين، وفي الأخير فالله غفور رحيم، يغفر كل شيء إلا أن يشرك به». ولسمو ولي العهد سلف في هذا التقرير الذي يتفق مع مقاصد الشريعة. فهذا الفقيه والأصولي أبو محمد بن حزم الأندلسي يؤكد في أكثر من موضع من كتابه المعروف «المحلى» أن «ما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال؛ لأن الله تعالى قال: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم)». وفصل في كلامه هذا عند الحديث عن الأصناف الربوية، قائلاً: «ما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال، لأنه لو جاز أن يكون في الشريعة شيء حرمه الله، تعالى، ثم لم يفصله لنا، ولا بينه رسوله عليه السلام، لكان تعالى كاذبا في قوله: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم)؛ وهذا كفر صريح ممن قال به؛ ولكان رسول الله ﷺ عاصيا لربه تعالى، إذ أمره بالبيان فلم يبين؛ وهذا كفر متيقن ممن أجازه».

أما في كتابه الآخر «الإحكام في أصول الأحكام» فلقد عقب على قوله تعالى: «ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب»، وقوله تعالى «قل أرأيتم ما أنزل لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل ءالله أذن لكم أم على الله تفترون»، بقوله: «فصح بهاتين الآيتين أن كل من حلل أو حرم ما لم يأت بإذن من الله، تعالى، في تحريمه أو تحليله، فقد افترى على الله كذباً. ونحن على يقين من أن الله، تعالى، قد أحل لنا كل ما خلق في الأرض، إلا ما فصل لنا تحريمه بالنص لقوله تعالى: (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم). فبطل بهذين النصين الجليين أن يحرم أحد شيئاً باحتياط، أو خوف تذرع».

وللحديث بقية.