في لقاء قصير مع رئيس جمعية رعاية مرضى السرطان بإحدى المناطق اللواء متقاعد قناص آل سوار، كان الحديث عن طلبهم من شركة طبية ألمانية متخصصة لتوفير طرف صناعي وأجهزة معينة مصممة خصيصا لحالة «محارب سرطان» لديهم، بتكلفة تقارب 135 ألف ريال، وأنهم بانتظار الداعمين لهذه الحالة، وكان تعليقه أنه تلقى دعما بعد يومين من نشر الحالة بمبلغ 1200 ريال فقط، وأكمل حديثه وكأن شيئا لم يكن عن إنجازات الجمعية بدراسة حالة 1470 أسرة، وفر السكن المدعوم من الإسكان التنموي بالفعل لـ270 أسرة منها، ومسار خاص بترميم البيوت، ومسار لدعم الشباب والفتيات بتوفير قرابة 50 موقعا لدعم أعمال مهنية تنبع من الإنتاج الطبيعي للمنطقة، حتى يكون الدور تنمويا وليس رعويا، ونشرت الجمعية 14 بحثا، منها 4 في مجلات عالمية محكمة، وفي طور إنشاء مركز للفحص المبكر و.... و..... إلخ من المنجزات والأرقام القياسية التي يصعب اللحاق بها على الأقل في المستقبل القريب. ولكنني انشغلت عن تلك المنجزات بموضوع الـ1200 ريال التي جمعت، في منطقة كسائر مناطق المملكة تجمع مبالغ ديات الدم بملايين الريالات في أقل من أسبوع غالبا. اللواء متقاعد هذا كان قائدا لمدينة طبية عسكرية، وكان يرى أبناء منطقته يعودون إلى ديارهم بـ«تابوت» لعدة أسباب تحاول الجمعية تلافيها، وبحكم أنه قد تلقى خبرات عالمية في مجال عمله، فهو يعي جيدا أن دعم الفئات المحتاجة وتأهيلها ودمجها في المجتمع ليس «شغل فضاوة» كما يعتقد الأغلبية وللأسف، بل هو وكما تظهر دراسات الأمن القومي متعلق بجزئية الأمن المجتمعي. المجتمع المتكافل الذي يدعم أغنياؤه فقراءه تقل به معدلات الجريمة العشوائية وبالتالي الجريمة المنظمة. فحرص رجال الأعمال بأمريكا -مثلا- على دعم فقراء إفريقيا ليس لـ«سواد عيونهم» فقط، بل لأن خفض مستوى الفقر والجهل والأمراض الفتاكة والأوبئة، يعني خفض نسبة الانخراط في الجماعات الإرهابية والتنظيمات المسلحة، وبمثال أوضح، التاجر الذي يدعم إنشاء مدرسة في أديس أبابا، قد يمنع شابا على الأقل من أن يختطف سفينة شحن تابعة لهذا التاجر بعد أن تضيق به السبل.

ما أريد قوله إن (الدية) في العادات القبلية في الأصل لا تجمع لأسرة قتيل أو قاتل كان جانيا أو قاطع سبيل أو هاتك عرض، بل تجمع لمن قاتل دون عرضه أو ماله، فتجد أن استرخاص هدر الدم مرتبط بهذه التجارة والتي يتحصل بعض الوسطاء فيها على ثلث المبلغ المجموع أو أكثر، وفي النهاية فإن تجارة الدم من المنعشات لتجارة الأسلحة، والأسلحة مرتبطة لاحقا بتهريب المخدرات.

بينما وفي الجانب المشرق أنه وبعد جمع مبلغ 700 ألف ريال من قبيلة فلانية للمشاركة في دية ابن قبيلة أخرى، أعلن عن اكتمال المبلغ فما كان من شيخ القبيلة المتبرعة إلا أن قال «الفلوس ماهي راجعة بنعطيها فلانة بنت قبيلتنا»، والتي ترعى مجموعة من الأطفال والفتيات الأيتام لأب توفي بالسرطان، لبناء منزل لها وتأثيثه، وصونها وأيتامها من الإيجار وويلاته. فما بين 1200 ريال لمريض يحارب السرطان القاتل، وبين قاتل لا نعرف ماهي جريمته أو سبب ارتكابها، أو أين ذهبت هذه المبالغ ولصالح من، علينا أن نحدد من الأكثر حاجة لدعمنا (محاربو السرطان أم تجار الدم).