السياسة لعبة لا يجيدها الأطفال والبسطاء الذين لا يتذكرون سوى الجوانب الإيجابية أو السلبية في كل مرحلة. وبحكم براءتهم، فهم يصدقون الوعود التي يسمعونها حتى ولو كانت أكاذيب من صنع الساسة. كنا صغارا عندما كانت الحرب المقدسة (كما يسميها تشارلي ويلسون) في أفغانستان، وكان كتاب «آيات الرحمن في جهاد الأفغان» يجتاح المجتمعات الإسلامية، ويدخل كل بيت. وأمام تلك المعجزات بين «دفتي الكتاب» كانت كل نفس تحدث نفسها بالذهاب إلى أفغانستان، ونيل شرف الجهاد، حيث كان الطريق إلى النعيم في ذلك الوقت يمر عبر «كابول». وبعد عقود من الزمن، بات يقينا أنه لم تكن هناك حرب مقدسة، ولم تكن هناك كرامات ومعجزات خارقة، وإنما كانت عملية قادتها الاستخبارات الأمريكية تحت مسمى «الإعصار»، لتسليح وتمويل المقاتلين بأفغانستان في 1979، من أجل مواجهة الاجتياح الروسي الذي رآه الغرب تهديدا للأمن العالمي. وكان يقود هذه العملية ضابط الاستخبارات الأمريكي تشارلي ويلسون، الذي كان تربطه علاقة جيدة بالرئيس الباكستاني محمد ضياء الحق، حيث كانت باكستان المنفذ لإدخال الأسلحة والإمدادات للمجاهدين السنة. كما دعم جهاز الاستخبارات البريطاني وإيران إحدى الجماعات المتشددة، برئاسة أحمد شاه مسعود، الذي كان زعيما للمجاهدين الشيعة. وكان لصواريخ «ستيجنر» المضادة للطائرات الدور الأكبر في حسم الحرب، وهزيمة السوفيت، وانسحابهم في 1987. وقد كان لهذه الهزيمة الأثر الأكبر في تفكك الاتحاد السوفيتي لاحقا. عقب ذلك الانسحاب، انقسمت القوى على الأرض الأفغانية بين أحمد شاه مسعود، زعيم الشيعة، وزعيم «القاعدة» وحليف «طالبان»، أسامة بن لادن، وانتهى ذلك الخلاف باغتيال شاه مسعود، وسيطرة «طالبان» على الحكم. ظلت «طالبان» تحكم أفغانستان حتى 2001. ومع توليها الحكم، قامت بإبادة ثقافية لكل المعالم الشهيرة، بما في ذلك تمثال بوذا، الذي ظل صامدا لأكثر من 1500 عام، ومثلت التشدد في أبشع صوره. عقب أحداث 11 سبتمبر، غزت أمريكا أفغانستان، وأطاحت بـ«طالبان» في غمضة عين، واستطاعت القضاء على «بن لادن» لاحقا، في عملية نوعية أسمتها «جيرانيمو». ظلت أمريكا في أفغانستان ما يقارب العشرين عاما، وكانت حركة «طالبان» تشكل حركة المقاومة لهذا الوجود، وخسر الأمريكيون الآلاف من جنودهم، إلى جانب التكلفة العالية التي دفعتها «البنتاجون»، مما أجبرهم أخيرا على التفاوض مع الحركة، والتخلي عن حلفائهم. ويرى الديمقراطيون أن أمريكا بانسحابها من أفغانستان خلقت ملفات ضغط حقيقية، وضعتها على كاهل الإيرانيين والصينيين والروس، و«طالبان» نفسها، ولعلنا نتذكر المقولة الشهيرة بعد تخلي أمريكا عن حلفائها في فيتنام «غادرت واشنطن سايغون لكنها ربحت فيتنام». إن التدخل الأمريكي لم يكن في يوم غايته بناء أفغانستان أو أي بلد غزته. أما ما يحدث بعد انسحابها من مذابح وتجاوز لحقوق الإنسان، فلم تكن أمريكا في تاريخها تشعر بالخجل من فشلها الأخلاقي. نعود لحركة «طالبان» الجديدة التي ستكون مجبرة على تقديم إشارات إيجابية لجميع دول العالم، ولا سيما بعدما تعلمت من درس 2001، وتعلم يقينا أن أمريكا تركتها وحيدة أمام أعداء ألداء، يفوقونها قوة وجبروتا، وأورثتهم بلدا تم تدميره والقضاء على موارده.