التدين الشعبي الذي أنتجته تيارات الإسلام السياسي وفرضته على المجتمعات الإسلامية، بكم هائل من الأساليب والطرق المختلفة، أضحى اليوم هو التدين السائد، والذي يختلف جذريًا عن الإسلام الأصيل، المبني على اليسر والسهولة، وقد كان تغلغل جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية في التعليم السعودي نافذة واسعة للسيطرة على الخطاب الديني عبر مخرجات التعليم العالي، وعبر الفتوى، وعبر مكاتب الدعوة وتوعية الجاليات، وعبر منبر الجمعة.. وغيرها، مما أدى بها إلى السيطرة على المشهد الاجتماعي، وهم في ذلك كله يستبطنون الاتجاه ضد السلفية التقليدية، حتى جاء اليوم الذي أحرج فيه «السروريون» التنظيم الأم في مسألة الانتساب إلى السلفية التقليدية، وتبني هذا الاتجاه لخطف زمام السيطرة على المشهد من الإخوان، غير أنَّ «السروريين» وجدوا أنفسهم أمام الإشكالية التي ليس لها حل، وهي: أن من الأصول الرئيسة في السلفية مبدأ السمع والطاعة لولي الأمر، وعدم منازعة الأمر أهله، والأمر هنا هو الحكم والملك، وبالتالي سيكون من المتعين اختيار سبل غير علنية للنقد السياسي، وهو الأمر الذي سيفوت عليهم الوصول إلى الحكم عبر إسقاط الحاكم، واغتياله معنويًا، ومن هنا وجدت الصحوة نفسها مضطرة إلى اختيار طريق غير ممهدٍ، ولكنه أكثر اختصارًا، بعد أن أخفقت في سلوك الطريق الأول، ألا وهو: تبني الاتجاه الرسالي والطهوري في السلفية، والمتمثل في الموقف من الآخر والمخالف عبر التكفير، والموالاة والمعاداة، ولوازمها، لتخرج توليفة السلفية الجهادية، والتي تشققت بعدها السلفية إلى شظايا سلفيات مشوهة، بل وأنتج (تسلفن) الصحويين، سلفية مضادة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، والأخيرة بذاتها تشظّت إلى شظايا متعددة، وكأن الفكر السلفي متى ما خالط أمرًا من أمور الدنيا حملت تلك الخلطة في بنيتها المعرفية والنظرية بذور التشقق والتشظي.

كان الذي بدد السلفية التقليدية إلى سلفيات متعددة بدأت بالسلفية الجهادية، هي العودة لتصحيح السلفية، وكان الانتقاد الطائفي، ثم انتقاد الإسلام السياسي، ثم الانتقاد الليبرالي، ثم الانتقاد السلفي السلفي، هو السبب الأبرز وراء هذه التشققات التطبيقية التي يمدها سبب نظري في بنية تكوين السلفية في الأساس، وهو الميل للتقليد دون الاجتهاد.

من هذه العبثية الفكرية الهائلة التي ضربت المشهد السعودي، والتي جاءت في الأساس من قبض العقل الصحوي على منافذ النظرية السلفية، وفتحه صنبور الاجتهاد في مسائل نقد الحكم والسياسة، وإغلاقه تمامًا في وجه مسائل تقدم المجتمع وتطوره، تمكن خطاب الصحوة من خلق حالة من عدم الاستقرار في المجتمع بسبب دورها المؤثر، وعجزها عن حسم الصراع لصالحها، مع العجز عن تحييد دورها بالمقابل، بسبب عدم اتخاذ الخطوة الأكثر جرأة وهي فصل الدين عن السياسية في جانب ممارسة الصحويين للعملية السياسية ولو كانت خطابًا عامًا من منطلقات دينية، ومن هذه الأخيرة تحديدًا تم تشويه مفهوم المدنية والعلمانية، على الرغم من الإمكانية الكبيرة في توافق هذه المفاهيم مع روح الإسلام واجتهادات منظريه.

ومن المتعين أنَّ الخطاب الديني ذا الاتجاه الأحادي له أثر عميق وفاعل في بنية المجتمع، وهذا الأثر يتشكل بسبب تخالط الرأي البشري والنص المقدس، وعدم وضوح وإدراك الحدود الفاصلة بينهما، مما يولد مجموعة من الأوهام الدينية، وسيادتها تاليا، لتتحول ظاهرة التمسك بالدين إلى ظاهرة مرضية، يستطيع من خلالها المتطرف الصحوي السيطرة على العقل والفعل البشري في المجتمع، وهنا نتذكر كيف نتج مفهوم أن العلمنة قرين الحداثة، من خلال معركة الحداثة في السعودية بين الصحويين والحداثيين، وأن المجتمعات ما أن تدخل عالم الحداثة حتى تتجه نحو العلمنة، وهذا ما أدى ببعضهم إلى استنتاج أن الإسلام غير قابل للعلمنة.

في مؤتمر الحوار الوطني الأول في يونيو عام 2003، وبحضور جمع من العلماء الذين ينتمون لجميع الطوائف في السعودية، بمن فيهم رموز الإسلام السياسي، اعتمد المؤتمر ميثاقًا يحتوي على مجموعة من التوصيات يمكن اعتبارها ضربة قاسية لأحادية التوجه، وسلطوية الخطاب الديني السلفي الذي حاول الصحويون التماهي معه والانطلاق منه، ومن أهمها: أن الميثاق أقر التنوع الفكري والمذهبي للدولة السعودية، وهذا متى ما تم الاتكاء عليه، أمكن تلوين الطيف الداخلي للبلد باللون الأخضر، والأخضر فقط.

بعد هذه المقدمات، والتي لا تكفيها عدة مقالات، وإنما تحتاج إلى أبحاث معمقة، أشير إلى بعض الأفكار بشكل سريعٍ ومقتضبٍ؛ حتى لا يكون الخطاب الديني عائقًا أمام رؤية المملكة 2030:

أولًا: غياب الوحدة الفكرية دليل واضح على أننا لا نتعامل مع نص منزهٍ ومقدسٍ، بل دليل على أننا نتعامل مع آراءٍ تلاقحت مع هذا النص، ومن هنا فإن الاجتهاد الفقهي وفقًا لنظرية المصلحة ضرورة ملحة في سبيل تعزيز جودة الحياة، وتوفير الرفاه، وحماية النماء.

ثانيًا: إعادة النظر في الخطاب الديني وإصلاحه خطوة من شأنها أن تسمح بإنشاء مجتمع مبني على القيمة الحديثة والشاملة للمواطنة.

ثالثًا: النزعة الرسالية في الفكر السلفي عنصر محفز لإعلاء شأن المعتقد الخاص في مقابل المعتقدات الأخرى، خصوصًا مع الانطلاق من أرضية شعور متخيّل بامتلاك الحقيقة المطلقة، وهذا من شأنه أن يولد بيئة طاردة للعقول النابهة، والاستثمار، ومضاد لأي تقدم أو تطور.

رابعًا: يجب أن تكون الفتوى مقتصرة على هيئة استشارية كبرى يؤخذ رأيها بشكل جماعي لا فردي.

خامسًا: من الضرورة حماية الخطاب الديني الرسمي ووقاية سمعته من الضرر في عدم الخوض بمسائل عادية، يمكن أن ينوب في حلها صغار طلبة العلم الشرعي، كما يجب ألا يقحم كبار العلماء في مسائل بسيطة، وأن يتفرغوا للمسائل الكبرى المتعلقة بسماحة الإسلام وقيمه العليا، حتى لا نقع في إحراجات نحن في غنى عنها، كما حدث سابقًا.

أخيرًا، كان حديث الأمير محمد بن سلمان ولي العهد -أيده الله- للتلفزيون السعودي في أبريل 2021، أبرز خطوة رسمية سعودية تجاه الإصلاح الديني، وتوجيه المسار إلى الانتقال نحو منطقة ما بعد الخطاب الديني المتشدد، وصولًا إلى الخطاب المدني الإنساني، لنتمكن من صناعة الإنسان السعودي العالمي، ولنقول للعالم: أهلًا.