امتلأت المناهج التعليمية، والكتب الثقافية والدينية بمفهوم «عقوق الوالدين»، الذي يعتبر أمرا جيدا في أصله، حيث تم تعريف «عقوق الوالدين» بأنه «أي قول أو فعل مؤذٍ يقوم به الابن لوالديه»، وأن «من أشكال الإيذاء التسبب لهم في الغضب أو الحزن»، وهذا طبعا على اعتبار أنهم والدان مثاليان. لكن حصل انحراف خطير في هذا المفهوم، بدأ عند التطرف في هذا المفهوم، فتحول معناه من تعزيز منهج الامتنان للأفعال الطيبة إلى منحنى قداسي في تصوير الوالدين كشخصين مقدسين، لا شيطنة لأفعالهما مهما يكن تصنيفها، بل ويجب مقابلتها بالشكر والامتنان على أي حالٍ كانت!.. هنا بدأت الكارثة.

بشكل موضوعي ومنطقي، قرار الإنجاب بحد ذاته هو مسؤولية الأبوين فقط، ولا شأن للابن في هذا القرار، وبالتالي ما يقدمه الوالدان ليس تفضلا وكرما، كما تقول الكتب التعليمية والثقافية، إنما هو مسؤولية كاملة تقع على كاهلهما بإطعام هذا الابن، وعلاجه، والعناية به، وتوفير كل حاجاته حتى يبلغ. بل وبعد البلوغ، يجب عليهم مساعدته إن طلب ذلك، ولا مبرر لهما في التخلي عنه. هذه المسؤولية تبدأ منذ اتخاذ قرار الإنجاب، ويجب القيام بها على أكمل وجه دون انتظار مقابل، حيث إن الإنجاب رغبة فردية فطرية، يقررها الأبوان بكامل إرادتهما، وعليه.. ما هو الدَيّنْ الذي ينادون به الأبناء وعليهم سداده؟.

هذا الطرح المستعبد للأبناء لا يقف حده عند تنشئتهم على «المازوخية العاطفية»، بل يمتد ليعطي الوالدين المساحة في قبول ممارسة أي شعور لديهما، سواء حزنا أو غضبا على أبنائهما، غير مكترثين لتبعات ذلك، ومبررين ما يفعلانه بعدة تبريرات، منها دينية - ولست مهتمة بالحديث عنها - وأخرى ثقافية، تتمثل في الاعتقاد الاجتماعي بأنها الطريقة المثلى لتعليم الابن الصبر والتحمل دون مقاومة منه، كي يستطيع مواجهة الحياة مستقبلا!.

«عقوق الأبناء» يحدث عند انقلاب الأدوار، وبالتالي يصبح تعريفه «هو كل قول أو فعل من الوالدين يؤذي الابن»، ويدخل ضمن ذلك «الابتزاز العاطفي» الذي يمارسه الوالدان مقابل خيارات الابن الشخصية التي لا تتوافق مع أهوائهما، وكل مقايضة نفسية في تنفيذ رغباتهما الشخصية، أضف إلى ذلك - وهو الأهم - تسلطهما في تشكيله الفكري والثقافي.

بدأت الدولة في سن قوانين الحماية، بعد نتائج هذا التطرف المعرفي لبر الوالدين، الذي أدى إلى قيام البعض بجرائم بشعة في حق أبنائهم. وفي الواقع قوانين الحماية ما زالت تحاول الوقوف في وجه ثقافة المجتمع الأبوية، وتحقق العدالة، إلا أنها أحيانا تسقط أمام صلح مفروض أو قضية محفوظة، لعدم اكتمال الأدلة، وإن ثبتت ووجبت محاسبة الوالد المعتدي، سيحاكم بطريقة أراها غير عادلة، ففي الحق الخاص سيحاسب بشكل مدني دون الأخذ بالاعتبار علاقة الطرفين، وحجم الضرر المضاعف، لقربهما الأسري، وفي الحق العام سيحاسب بشكل ديني، وسيخفف الحكم عليه إذا برر ذلك أن منطلقه كان الخوف أو الحماية، ويبرأ بتكييف ذلك تحت بند مخيف يسمى «الإسراف في التأديب»!!.

يكسر الفؤاد ما نقرؤه في مواقع التواصل الاجتماعي، شكوى ابنة من قسوة والدها، والآخر يتساءل لماذا لا تحتضنه والدته كباقي الأمهات؟!، مشاعر تبكي داخل قلوب الأبناء، لا مواسيَ لها، وتموت أحلامهم في مهدها، لأن محيطهم لا يقبلها. صراع نفسي يعيشه الأبناء في إجبارهم على ترجيح إحدى كفتي الميزان: كفة الوالدين أم كفة الرغبات الشخصية. يوضع بين نارين، كلتاهما ستحرقه حيا: نار فقدان العاطفة والأمان الأسري، ونار الرضا والاستقرار الذاتي في تحقيق رغباته.

نستنتج من كل هذا العبث أن عدونا الحقيقي هو أسلوب التطرف الفكري الذي تنتهجه عقولنا، والذي كان نتيجة سيطرة الخطابات المتطرفة بأنواعها: الدينية والثقافية والسياسية، وأيضا لن نستطيع التقدم ما دمنا نُفسِد الفكرة الصحيحة بالتطرف فيها.