في دولة كالعراق، الكل يجب أن يخاف من الكل، والجميع يفترض أن يُحسب على طرفٍ ديني أو سياسي، ليضع نفسه ضمن قواعد أو روافع مؤيديه.

وفي دولة كالعراق، يبرز تعليق كثير من معضلات الحاضر على الماضي. وفي دولة كالعراق، النظرة السائدة عنها تشير إلى انقيادها في مشاريع، البعض منها داخل الحدود، والآخر خارجها.

سال، خلال الأيام الماضية، في بلاد الرافدين حبر الديمقراطية على أصابع الناخبين، المحسوبين على كل شيء عدا الدولة والوطن،

إذا ما نظرنا إلى أن المشروع الوطني يأتي كآخر التطلعات والآمال، وما يلي الأخير من حيث التعويل عليه، وقد يحكم ذلك عدة عوامل، تبدأ بالطائفية، وتنتهي بالعشائرية.

فالتركيبة العراقية هي التي تحكم المشهد وليس السياسة، وهي ما تضطلع ببعض المسؤولية والخوف المتبادل بين شرائح المجتمع. وفي أرض «سيد القصب»، كما يُسمى بالسومرية، الأقلية تخشى الأكثرية، والشيعي يستقوي على الآخر بالكثرة العددية، والسني يرى أن أحقيته في الوطن تفوق حق المسيحي، والمسيحي يعتقد أنه أجدر من الكردي والأيزيدي في الحقوق الوجودية التي لا تراعي رداء الوطنية، إنما تعتمد على عنجهيةٍ كرست لها الطائفية، والمذهبية، والجهوية، والفئوية.

والمعروف عن الدولة، التي عاشت عقودا بين كماشتي «الانقلابات والحروب»، أنها بحاجة إلى تصحيح مفاهيم تبدأ بالإنسان والمواطن، وتنتهي عند هذا الحد، شريطة تنحية الطائفية والمصالح الحزبية جانبا، على الرغم من أن الفكر الطائفي في بلاد الرافدين هو المتحكم في تفاصيل الحياة الدقيقة، وذلك يعني أن المصلحة الحزبية النابعة من الانتماءات السياسية تأتي ثانيا، وليست أولا، بعد الانتماء الديني والمذهبي.

وبناء على ذلك أتصور أن اللغة الطائفية من شأنها تحويل صناديق الاقتراع إلى «صناديق ملغومة»، بعد أن عجزت منذ سقوط نظام صدام حسين، عن قيادة العراق لقوائم الدول التي تتغنى - لو لمجرد التغني - بالمفهوم المعيشي الديمقراطي.

لماذا؟، لسيطرة العمائم على النظام الاجتماعي العراقي، ودفعه لانتهاج هذا الأسلوب الطائفي كنظام حياة، ينسف كل مبادئ وأشكال وصور التعايش مع الآخر؛ كونه – أي النظام الطائفي – يقوم على أحقاد وسوداوية تنتهك وجود الآخر أيا كان شكله وانتماؤه، وهذا يشبه إلى حدٍ كبير معادلة صفرية، تقوم على ما يخسر فيه الطرف الأول، يكسب بالقدر نفسه الطرف الثاني.

هذا من جانب، ومن جانب آخر، فالخشية من سيطرة «العمامة» التي أقصد على مفاصل الدولة، وتحولها مع الوقت إلى أشبه بـ«السجّان»، الذي يستطيع فرض كل شيء ضد أي فرد، حاضرة بكل قوة في المشهد العراقي، حتى وإن عمل البعض على تفكيكها، إلا أن أي قوة لم ولن تستطيع بمفردها مواجهتها، لافتقار كثير من الحملات السياسية للقواعد الشعبية التي يمثلها المواطن العراقي، الذي ينقسم إلى شكلين: خائف من سموم الطائفة والمذهب من ناحية، وممتثل مطيع لتعاليم المرجعيات والحوزات الدينية التي تعلو كل شيء. تسبق ذلك كله الفكرة والقناعة السائدة في نفس المواطن العراقي، القائمة على التبعية، كيف؟.

ثمة ما يشير إلى وجود صورة نمطية تم إقناع الشارع العراقي بها، بل وتم فرضها في بعض المناحي، تقوم على أن الدولة لن يُمكن لها أن تكون مكتملة الأركان دون أن تسير وفق منهجية سياسية قادمة من الخارج، وهذا ما أسهم في تفاقم حالة الإحباط الاجتماعي الذي يعانيه المجتمع العراقي بالمجمل، فالقناعة باستقلال القرار تم وأدها مسبقا، واقتناصها وإصابتها بكثير من الجروح في الأوساط الاجتماعية، وعلاجها لن يكون في يومٍ وليلة، أو على يد رئيس وزراء أو حتى رئيس دولة، إنما بمشروعٍ وطني كبير يندرج الجميع تحت مظلته، عنوانه الرئيسي «العراق أولا.. لا الطائفة، ولا المذهب، ولا العشيرة، ولا هذا وذاك».

وبلا شك يُجمع العقلاء على أن تعافي دولة كالعراق بمقدراتها البشرية والاقتصادية باستطاعته الإسهام في الثقل السياسي للمنطقة، التي تعتبر حيويةً، استنادا على الطاقة والاعتدال، وسط عالمٍ مُتكالب على الشرق الأوسط بمنظوره الجامع، وهذا ما أتصور أنه فتح المجال لوجود مشاريع تناهض هذه الفكرة، سواء مجاورة أو قادمة من الشرق أو الغرب، المهم ألا تصطف بغداد ضمن تلك الركائز.

أتصور أن رئيس الوزراء الحالي، مصطفى الكاظمي، قد فهم أن قواعد اللعبة تغيرت مُبكرا، وهو رجل مخابرات عتيد، لذا حاول تغيير مسار وشكل الدولة، من مرتعٍ للعذابات التاريخية، إلى أخرى تُلمح ببصيص أمل ينقل العراق من موقع إلى آخر، من خلال التقارب مع دول المنطقة، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وهو الأمر الذي كان ممنوعا خلال عقدٍ مضى إلى غير رجعة، أشعل فتيله صدام حسين، وأكمل مسيرته نوري المالكي، جنبا إلى جنب مع بعض «المُعميين» المتطرفين، وميليشيا الإرهاب التي كانت توفر له الحماية والتأييد.

إن الطريق لا يزال طويلا أمام العراقيين لنقل بلادهم من حالٍ بائسة إلى أخرى محفوفٌة ببعض من التفاؤل والتطلع.

المُهم وجود اليقين والإصرار على نفض غبار الطائفة، والعشيرة، والأكثرية، وما يُشابه من عوامل صناعة الفرقة، والانخراط في عنوان المواطنة الحقيقي الكبير، على الأقل للخلاص من أمرين كلاهما مرّ: مفهوم «الخصم والحكم»، ولعنة «العمامة السوداء»، فهما يُشبهان خنجرا ذا رأس مسموم، مزقهم، وسيمزق المزيد منهم، للوصول إلى إنسان بلا إنسانية، ومواطن بلا وطن، وللشعور بموت.. بلا موت.