يستند سوق العمل في بنيته الهيكلية لموارده البشرية، إلى المؤهلات العلمية بتخصصاتها المختلفة وبمستويات تأهيلها المتباينة، ما بين مؤهلات التعليم العام أو الدبلومات أو التعليم الجامعي وما فوق، ولذلك نجد أن جميع التخصصات العلمية متاحة في جامعات العالم المتقدم والنامي، بسبب الحاجة المستمرة لتمويل سوق العمل بمتطلباته من الموارد البشرية بتخصصاتها المختلفة، ولم نجد أن هناك تخصصات تُغلق أو يكتفى منها لعدم الحاجة إليها في السوق، لأن التطور في متطلبات السوق نتاج التطور في تلك التخصصات التي تقود سوق العمل، أو تلك التي تمثل بنيته التحتية بناء على المستويات التعليمية المختلفة.

قد يكون هناك تغير في الأعداد المطلوبة من المخرجات العلمية لتخصصات معينة، ما بين الحاجة لزيادتها في تخصص، والتقليل منها في تخصص آخر، بسبب تزايد متطلبات السوق التقنية والحاجة إلى مخرجات تلبي تلك المتطلبات المتنوعة في مجالاتها السوقية في القطاعات المختلفة، ولكن ذلك جميعه لا يعني عدم الحاجة لجميع التخصصات العلمية التي يظهر الجمود في توظيفها، أو نجد ضعفا في مشاركتها في سوق العمل، بدعوى عدم الحاجة لتلك التخصصات، والدعوة لإغلاقها في الجامعات أو في مستوياتها التعليمية الأقل.

يُعد التصنيف المهني للتخصصات من أساسيات متطلبات التوظيف للمؤهلات المختلفة في المواقع الوظيفية والمهنية المناسبة، بمعنى أن وجود مسمى تلك التخصصات بين متطلبات التصنيف المهني للوظيفة، يعتبر مرشداً مهماً وعاملاً أساسياً للتوظيف في تلك المهن، بمطابقة المؤهلات العلمية مع متطلبات الوظيفة من التخصصات العلمية، وبذلك ستجد جميع التخصصات مكانها في سوق العمل في المكان المناسب واللائق بالمؤهل العلمي، وستكون الإنتاجية أفضل مردود وأكثر قيمة.

تتولى وزارة الموارد البشرية مسؤولية ذلك التصنيف المهني للتخصصات في الوظائف وذلك يحتاج إلى استيعاب لمحتوى التخصصات للمخرجات العلمية كافة، حتى يمكن توجيه مجالات توظيفها المناسب في مواقعها الصحيحة، والذي يتطلب تعاونا مستمرا بين وزارة التعليم والجامعات، ووزارة الموارد البشرية، للمشاركة في توضيح مضمون التخصصات ومجالات أعمالها المناسبة، بما يستدعي تغيير اللوائح الخاصة بالتصنيف المهني وتحديثها بما يخدم التوظيف في سوق العمل، ويسهم في الحد من البطالة بما يناسب السعودية اليوم والمستقبل.

تداول الإعلام منذ أيام تصريحات لمسؤول في وزارة الموارد البشرية، حول رؤيته بإغلاق بعض التخصصات العلمية التي ليس لها مكان أو طلب في سوق العمل، والتي حددها في تخصصي التاريخ والجغرافيا، بما يشير إلى تهميش وانتقاص أهمية هذين التخصصين بسبب عدم معرفة محتواهما العلمي ومتطلبات وجودهما في سوق العمل، سواء في إطار السعودية الجديدة، أو في ضوء تطلعات الاستثمار الشامل والتنمية لمواردنا البشرية ولمقدراتنا ومواردنا، التي تحتاج لتلك المؤهلات ولغيرها في التخصصات المختلفة.

البطالة الموجودة بين المواطنين بمختلف مؤهلاتهم التعليمية، رغم انخفاضها النسبي في الربع الثاني من عام 2021 إلى 11.3% بدلاً من 11.7% في الربع الأول، تؤكد أن هناك فجوة كبيرة بين لوائح العمل ومواد التوظيف المتضمنة له، وبين واقع السعودية اليوم ورؤية 2030، فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن تصنيف التوظيف لتخصصات التاريخ والجغرافيا، محصور في مهنة معلم/‏ة، وكأن هذين التخصصين لا يناسبان سوق العمل الآخر، على الرغم من ثراء هذين التخصصين بفروعهم الدقيقة، وعلى الرغم من التحول الكبير الذي تشهده السعودية اليوم في هيكلها المؤسسي والاستثماري والإنتاجي، سعياً نحو تحقيق مستهدفات الرؤية التنموية والإستراتيجية، بالاستفادة من جميع مدخراتنا ومقدراتنا في المجالات المتاحة والفرص المطروحة.

وعليه فإن السؤال الذي يفرض نفسه، لماذا لا تعمل وزارة الموارد البشرية على تحديث لوائحها في التوظيف بناء على ما نشهده من تحول جذري في السياسات التنموية والمؤسسية؟ لماذا وزارة الموارد البشرية غائبة عما يحدث في محيطنا الوطني من تحديات واضحة في توظيف المواطن ونسبة التوطين، لماذا لا تبادر الوزارة بسياسات مختلفة تُسهم في زيادة نسبة التوظيف اللائق بالوطن والمواطن؟ ومن جانب آخر لماذا لا تبادر وزارة التعليم والجامعات من خلال أقسامها في العمل على بناء آلية عمل دائم للتواصل مع وزارة الموارد البشرية، بما يسهم في معالجة ما تجده مخرجاتنا من تحديات في التوظيف؟ سواء من خلال تهيئة فرص التدريب في قطاعات الأعمال، أو بتوضيح المجالات المناسبة لعمل تلك المخرجات.

تشير الإحصاءات الوطنية إلى أن البطالة الموجودة ليست قاصرة على تخصصات معينة، وأنما تشمل مختلف التخصصات المطلوبة في سوق العمل، إذ سجلت بطالة متخصصي الأعمال والإدارة والقانون النسبة الأعلى من البطالة بمعدل 23.4% من جملة المتعطلين المواطنين، بينما سجلت العلوم الطبيعية والرياضيات والإحصاء نسبة 9.5% من المتعطلين، في حين سجلت العلوم الاجتماعية والصحافة والإعلام نسبة 5.4%، وتقنية الاتصالات والمعلومات نسبة 4.0%، والصحة والرفاه نسبة 3.9%.

التنمية عملية مشاركة اجتماعية ومؤسسية، تتحملها جميع الجهات المعنية بالتنمية، إصلاح تحديات سوق العمل يتطلب إصلاح لوائح نظام العمل وتحديث مواده التابعة بداية، كما يتطلب استشعار الجهات المعنية بالتعليم ومخرجاته لدورهم الوطني ولمسؤوليتهم الأكاديمية نحو تحديث برامجهم الأكاديمية، لتهيئة فرص القبول الوظيفي لطلابهم، وما يتطلبه ذلك من تدريب وإعداد ميداني لهم، علاوة على أهمية التعاون مع الجهات المعنية بالتوظيف في معالجة ما يواجه المواطن من تحديات تحد من مشاركته في سوق العمل الوطني، وذلك سيُسهم في استثمار مقدرات الوطن في القطاعات المختلفة، وسيعزز الحد من البطالة المتنامية لمختلف التخصصات.