في عام 1898 صدرت في بريطانيا رواية بعنوان «غرق السفينة تيتان»، لمؤلف ضئيل الشهرة يدعى مورجان روبرتسون، تدور حول تعرض سفينة جبارة للركاب للغرق تسمى تيتان، تقلع عبر الأطلنطي من ميناء ساوثمنتون إلى ميناء نيويورك، وتصطدم بجبل جليدي ويغرق ركابها.

وكانت الرواية تصف بكل دقة ما سوف يعانيه الركاب، وبعد 14 سنة نالت هذه الرواية اهتماماً كبيراً، وأعيدت طباعتها لمرات عدة، واعتبرت أغرب رواية في تاريخ أدب القرن التاسع عشر؛ لأن الرواية وقعت بالفعل لسفينة تحمل نفس الاسم وبنفس التفاصيل.

أما القاص الأمريكي الروسي الأصل إسحاق أسيموف فإنه قد كتب قصة في أواسط القرن عن الإنسان والعقل الإلكتروني، وكانت قصة خيالية لرجل يحمل هذه الصفات، وحينما التقط العلماء الفكرة وطبقوها علمياً توصلوا إلى الكمبيوتر، فكاد يجن أسيموف وقال مقولته الشهيرة: «يا للجنون هذه أفكاري التي تجني منها الشركات الملايين، بينما أنا صاحب الاختراع الأصلي لم أزل أعيش في فقري».

وفي هذه الظواهر الخارقة وعلى ضوئها أصدر الدكتور (ج. راين) كتابه الشهير «الإدراك خارج نطاق الحواس» عن جامعة ديوك، وأحدث كتابه ضجة لم يحدثها كتاب «أصل الأنواع» لداروين، وذلك في عام 1927، ومثل عن صدق نظريته بأنه لن يفهم الناس ظاهرة البرق والرعد إلا بعد أن اكتشفوا في المعمل إمكان إطلاق شرارة نتيجة التقاء شحنتين كهربائيتين؛ إحداهما موجبة والأخرى سالبة، ففي هذه الحالة لسنا بحاجة إلى إدخال البرق السماوي في المعمل لكي نثبت صحة ذلك!

ثم تلاه في العام 1942 البروفيسور (هـ. توليس) أستاذ الفلسفة في جامعة كامبردج ليقول إن حقيقة وجود ظاهرة الإدراك خارج الحواس يجب اعتبارها ثابتة كأي شيء آخر يمكن أن يثبته العلم، ومن هنا فقد انصرف العلماء إلى إيجاد علم يهتم بدراسة عدة ظواهر خارقة للمألوف، يجمعها الإدراك خارج مجال الحواس، وتشمل التخاطر التلقائي والاستبصار والتنبؤ بالمستقبل.

وفي أوائل الحرب العالمية الثانية التى أشار إليها المنجم الفرنسي نوستراداموس، وعندما كانت القوات النازية تجتاح بولندا وولف مسينغ، الذى اشتهر بالتنبؤ فهرب مسينغ إلى روسيا، ووقع في قبضة ستالين الحديدية، الذى أخذ يجري مع مجموعة من الخبراء الروس التجارب عن صدق تنبؤات الرجل؛ لأنهم لم يكونوا مؤمنون بهذه الخرافة، وفي الوقت الذي كانت البحرية الأمريكية تجري فيه تجارب وسائل الاتصال بالإيحاء على غواصات في أعماق المحيطات لانعدام الاتصال اللاسلكي حفزت هذه التجارب العالم الروسي فاسيليف لنشر تجاربه على استبصار وتخاطر ميسغ، برغم أنها كانت تثير جدلا أيديولوجيا كبيراً لم يتفق مع النظرية الشيوعية المادية، فأسموا هذه الحالة علمياً «الإعلام البيولوجي»، وذلك لكى تتفق مع النظرة الوجودية للمادة.

وحاولوا رد هذه الظاهرة العجيبة إلى التغيرات التى تحدث في الحالة الكهربائية، ونحن إذ نسوق هذه الأمثلة الغربية: نبوءات داموس وقصة إسحاق أسيموف، ورواية السفية تيتان، واهتمام العلماء بمن فيهم الروس بهذه الظاهرة الخارقة فإنه يحق لنا التساؤل: هل نعتبر هذه الأمثلة استبصاراً أم استشرافاً للمستقبل أم نعزوها للعبقرية مثلاً ؟

كانت طبيعة العبقرية مثار تخمينات، فلو رجعنا إلى أيام الإغريق الأولى لوجدنا أنها كانت حسب تصورهم تقرن بالجنون، وتؤول بأنها المدى الممتد من العصاب إلى الذهان، الشاعر رجل في وقت مجذوب ليس ككل الرجال؛ فهو أقل منهم وأكثر منهم في وقت واحد، كأن اللاشعور الذى يغترف من هذا الكلام يعد متجاوزاً للعقل ودونه في آن معاً، ويرى فرويد في الفنان بشكل عام «أنه رجل تحول عن الواقع لأنه لم يستطع أن يتلاءم مع مطلب نبذ الإشباع الغريزى كما وضع أولاً، وبعد ذلك أطلق العنان في حياة الخيال لكامل رغباته ومطامحه، غير أنه وجد طريقاً للعودة من عالم الخيال هذا إلى الواقع، وهو يصوغ تهويماته بمواهبه الخاصة نوعا آخر من الواقع ثم يمنحها الناس تبريراً باعتبارها تأملات قيمة في الحياة الواقعية».

وما بين صفة الجنون الممتدة بين العصاب والذهان وبين تصدية الشاعر من الهروب من الواقع، كما يقول داروين، وتبربر ذلك بصياغة تهويماته الموهوبة يكمن سر الإلهام أو شيطان الشعر كما يسمى، هذا الشيطان اللامرئي الذى شخصه الكثير من المبدعين في أنهم يصغون إلى أصوات، كما يقول فوكنر: أنا أستمع إلى الأصوات، وعندما أدون ما تقوله يتم كل شيء على ما يرام، ولا يعجبني دائما ما تقول الأصوات، ولكنني لا أحاول أن أغير شيئاً.

أما هارثون فيقول: «يبدو كأن الشيطان يدخل دائماً في محبرتي وأني لا أستطيع طرده إلا بأن أملأ قلمي كل مرة»، أما كبلنغ فيقول: «إذا كان شيطاني يصدر التعليمات فلا أحاول أن أفكر بصورة واعية اندفع، أنتظر ثم أطيعه»، أما كابوت فشيطانه الورد الأصفر، ولا يدع ثلاثة أعقاب سجائر في منفضة، ولا يسافر مع ثلاث راهبات في قطار، ولا يعمل يوم الجمعة، ويقول إنه قبل الكتابة يفكر بالرجل الثمل الذى كان يحمل دائما حقيبة مخرمة، فسأله جاره في الحافلة ماذا بها فيجيبه «نمس لقتل الأفاعي»، ويتطلع الجار في داخل الحقيبة ويقول ولكن ليس فيها شيء، إنه نمس خيالي فيرد في أثناء الكتابة عنها طوال اليوم، وهكذا فثمة شاعر يكتب وحيداً وشاعر يمارس التسكع طويلاً، وشاعر يستلقي كالميت، وشاعر يهب من النوم ينطلق في الضجيج ليكتب إبداعه الرائع، ولكنها على أي حال حالات بين المنطق والعقل، أو هي -كما يقول اليوت- عقلية ما قبل المنطق التي ما زالت باقية في الرجل المتحدث، ولكنها تغدو سهلة المنال للشاعر؛ لأنها ضرب من العبقرية والذكاء، ولكن لا أحد يستطيع أن يتعلم الذكاء.

1997*

* شاعر وكاتب سعودي / كويتي " 1951 - 2013"