حينما تُراجع تاريخ الاحتلال البريطاني والفرنسي للبلاد العربية والإسلامية بدءا باحتلال بريطانيا للهند سنة 1274 وانتهاء باحتلال الشام سنة 1335 والعراق 1336 تُلاحظ أمراً غريباً قد لا يكون له نظير في التاريخ العالمي، وهو سرعة نجاح الدول الغازية الفائقة في السيطرة على أي بلد إسلامي، حيث لا تكلف المحتل أكثر من إنزال قواته، وقد تحصل معركة أو معركتين لكنها في النهاية تُعبر عن سرعة انهيار مريع أمام قوات الاحتلال، لا تكاد تجد لها استثناءات إلا قليلاً؛ بل إن احتلال اليهود وهم أشتات من رعاع الناس لفلسطين لم يكلّفهم سوى ما يعرف بحرب الثمانية وأربعين، وهي حرب كانت ضرورية لتثبيت استقرارهم وجاءت كما يريدون.

حين تقارن ما حل في ذلك الزمان بمحاولات الاستعمار الحديثة تجد البون شاسعاً جدا، فالروس حاولوا احتلال أفغانستان ومعهم من القوة والعتاد ما كان كفيلاً بسحق الأفغان عن بكرة أبيهم، لكنهم بعد سنوات من الخسائر في الدماء والعتاد والمال خرجوا خاسرين، وحاولت الولايات المتحدة احتلال العراق لكنها تكبدت خسائر فادحة أجبرتها على الانسحاب وتسليم البلاد لمحتل وعدوٍ آخر، ووضعت كل ثقلها في أفغانستان، لكن ها هي بعد عشرين عاما تخرج منها منكسرة، وفرنسا لم تجد جمهورية مالي كما كانت تعهد إبان احتلالها لها، بل وجدت روحاً أخرى ومقاومة، والروس في سورية رغم تنكيلهم بالسوريين وبأسهم الشديد يألمون اليوم هم أيضا، ويجدون عناءً ووبالاً رغم الضعف الشديد للثوار السوريين وما هم عليه من تنازع وتنابذ وفرقة شديدة.

إذن فحال المسلمين اليوم ليست هي حال الأمس، ولو أرادت أي دولة غربية، بل لو أرادت الدول الغربية مجتمعة النزول بساحة إحدى البلاد الإسلامية، فيقيناً لن تكون العاقبة كما يشتهون.

دول الغرب بأسرها أنهت العصر الاستعماري لأسباب عديدة، لكنها لم تُنْه سياسة تسييرها الدول المستعمَرة سابقاً كما تهوى من مُنطلق قُوّتها وضعف تلك الدول؛ لكن الروح الجديدة لدى الشعوب المسلمة والتي تدعوهم لمقاومة الغزاة والمحتلين أصبحت تُضعف من قدرة دول الغرب على الضغط على حكومات الدول المستقلة، التي أصبحت أقدر من ذي قبل على اتخاذ قرارات أكثر استقلالاً وبعداً عن الإملاء الغربي، لماذا؟ لأن التهديد الغربي بالغزو أو التأديب العسكري لم يعد يسيراً في الحسابات الغربية، والسبب هو تغير الشعوب.

لنثبت ذلك تاريخياً، ففي مصر حينما أرادت بريطانيا احتلالها عام 1299هـ لم تتكلف سوى ضرب الإسكندرية وهزيمة أحمد عرابي في معركة واحدة ونفي زعماء المقاومة إلى سيلان ولا بواكي لهم، واستقرت بريطانيا في مصر بعد ذلك قرابة الثمانين عاماً، حيث خرجت منها من تلقاء نفسها بعد انقضاء عصر الاستعمار.

لكن لنتخيل لو أن بريطانيا؛ بل لو أن دول الغرب أرادت تكرار تلك التجربة اليوم، أجزم أن الأمر لن يكون أقل سوءًا مما حدث للأمريكيين في العراق وأفغانستان، فيا ترى ما هو سبب هذا التغير؟

لا شك أن هناك أسباباً عديدة لكن من أهمها تخلص عقلية الشعوب المسلمة من أسر الخرافات التي كانت تحيط بعقولها وقلوبها وتُقَيّد حركتها باسم الدين، فقد نشأت الخرافة في المجتمعات المسلمة في فترات مختلفة، إلى أن أصبح بثّها في المجتمعات السنية منهجاً سياسياً تبنته دول عديدة كالعبيديين والمغول والمماليك ثم العثمانيين، إلى أن غاب العقل المسلم تحت عمائم الأسياد وخِرَق شيوخ الطرق وسدنة الأضرحة والزوايا والتكايا، وغلبت الخرافة حتى على العلماء الذين أصبحوا يؤصلون لها ويتولون مهمة نشرها وادِعاء كونها من شعائر الإسلام، ويروجون للمنهج الجبري الذي يصبح معه الإنسان دابة لا علاقة له بما يُصنع به ولا بوطنه ولا أُمّته.

هذا الجو الخرافي انقشع عن كثير من بلاد المسلمين، وأسهم في انقشاعه عوامل عديدة منها انتشار المعرفة، ومنها وهو الأهم انتشار المنهج السلفي، أو آثار المنهج السلفي في جميع الأمة الإسلامية، فالسلفية في الستين سنة الأخيرة أثّرت حتى على المتصوفة وجعلتهم أكثر وعياً وأقلّ استئثاراً للخرافة من ذي قبل.

لذلك فإن وعي المجتمعات المسلمة ليس من صالح المستعمر القديم الذي خرجت جيوشه من المنطقة ليس زهداً فيها وإنما لجزمه على قدرته على التصرف في أحوالها وثرواتها دون جيوش، كما تفعل عدد من دول الغرب اليوم بثروات الألماس والذهب في غرب إفريقيا.

وموت الخرافة سيكون معه القضاء الكامل على آثار الاستعمار الاقتصادي والسياسي الذي خَلَف الاستعمار العسكري.

لذلك لا نتعجب حينما نرى الغرب يدعم بجد كبير المذهبين الخرافيين في الإسلام، الصفوي الشيعي المتمثل بتشجيع المشروع الإيراني للتغيير العقدي عند المسلمين، وإن اختلفوا معه في فقرات محددة من مشروعه كامتلاك السلاح النووي، والمذهب الصوفي بين أهل السنة، والذي هو أساس انتشار الخرافة الدينية في الأُمة.

وفي هذا العام خصوصاً رأينا حماساً منقطع النظير للدعوة لإقامة بدعة الاحتفال بالمولد النبوي وكثرة ما أُنتج من التسجيلات والمقاطع المصورة والمقالات في الاستدلال لمشروعيته، وليس هذا بعيداً أبداً عن مشروع إحياء الخرافة بين المسلمين وإعادة الأمة لما كانت عليه وقت دخول الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي، فالمولد ليس مجرد تَذَكّرٍ لمآثر النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما واجِهةٌ وشعارٌ لمذهب الخرافة؛ ودعاة الموالد اليوم لشدة مواجهتهم بالمطالبة بالدليل من أصحاب العقول الراجحات بدأوا بتصوير هذا الاحتفال بأنه ليس سوى تذكير بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحتوي شيئاً من المخالفات الشركية، وليس مرتبطاً بيوم معين ويمكن إقامته في أي يوم من العام، وهذه كلها مجرد تراجعات للهروب من الإلزامات، وإلا فالاحتفال بالمولد حتى لو صوره هؤلاء بهذا الشكل أو احتفلوا به بالفعل بهذا الشكل، فليس هو كذلك، ولن يبقى كذلك، فحقيقته التي يحاول مروجوه اليوم ترويج صورة مخالفة لها هي ابتداع في الدين وغلو في النبي، كما أن تسويغها فتح لتسويغ الكثير من مثيلاتها من البدع التي تنتظر دورها في العمل للترويج لها كالاحتفال بالإسراء والمعراج وليلة النصف من شعبان والاحتفال بالهجرة وبيوم بدر وهلم جرا، وما يحدث خارج بلادنا في تلك الاحتفالات من ادعاء حضور النبي بشخصه والرقص والمعازف والاجتماعات المختلطة التي يعمر فيها سوق الحشيش والنَّصب، ونراها في بعض الدول الإسلامية، هي مآل القول بمشروعية أي بدعة كانت، فالبدع لا تبقى على حالها بل تعظم حتى يُزكم باطلها الأنوف.

وتاريخياً كانت البدعة عامةً والمولد خاصةً، أداة لتسويق الباطل، فالمُعِز العبيدي حين أراد تسويق فكرِه الباطني على أهل مصر، جاءهم بالمولد ليستقطبهم به، وهو أول من سَوَّق لهذه البدعة، ونابليون بونابارت حين قدم مصر أول ما قام به هو الاحتفال بمولد النبي ليُسَوُق الاحتلال الفرنسي على أهل مصر ويؤيدهم على ما كانوا فيه من الرضوخ للخرافة.

والمماليك حين أرادوا الإبقاء على العقل الخرافي لدى المصريين شجعوا على عشرات الموالد ليس للرسول وحسب، بل لكل من زعموا له الولاية.

إن أعظم ما ينبغي أن يتمسك به المسلمون هو نقاء دينهم من صغير البدع وكبيرها، والذي لا يكفيه الدينُ كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويرى أنه بحاجة إلى زيادة فليس مُحِباً للمصطفى صلى الله عليه وسلم وإن زعم ذلك، فإن محبتنا للنبي ليست إلا لكونه المختار من الله لتبليغ الدين، فكيف نكون محبين له ونحن نرى تقصيره فيما بلَّغ.

والأولى بقادة دول العالم الإسلامي أن يَقوا شعوبهم من تسلط الخُرافة، وأن يَعوا جيداً حجم مشروع تغييب الشعوب ذي الأذرعة المتعددة، ذراعِ التغييب وراء ما يُفسد الدين والأخلاق، وذراع التغييب وراء الخرافة باسم الدين، وليوقنوا أن قُوَّتهم بعد ربهم بقوة شعوبهم، والشعب الغائب لا يمكن أن يكون قوياً.