في كتابه (في الثقافة السياسية) عاد حسن حنفي إلى تحقيبه الميثولوجي للتاريخ، فقد نشأ الإسلام منذ أربعة عشر قرنًا، وأقام حضارته في عصرها الذهبي في القرون السبعة الأولى، التي بلغت ذروتها في القرن الرابع، ثم جاءت الفترة الثانية من القرن الثامن الهجري حتى القرن الرابع عشر إبان العصر المملوكي الثاني، حيث توقف العقل عن الإبداع وبدأت الذاكرة في الحفظ، واجترار الماضي بالشروح والتلخيصات مثل جمل الصحراء - والتعبير له - ومن وجهة نظره، أننا الآن على أعتاب فترة ثالثة ينعتها حنفي: بـ(السباعية الثالثة)، التي تبشر بالعودة إلى عصر ذهبي ثان.

يقول حنفي: في المرحلة الثالثة تبدأ الحضارة الإسلامية في النهوض من جديد، وكأنها تسير إلى دورة إبداعية ثانية، ابتداء من القرن الخامس عشر بعد دورتها الإبداعية الأولى من القرن الأول حتى القرن السابع، ولعلها سائرة إلى ذروة ثانية تشابه الذروة الأولى للقرنين الرابع والخامس الهجريين.

وهي الفترة التي سميناها فجر النهضة العربية الإسلامية، والتي ما زلنا نعاصر بداياتها، بعد أن عاصرنا نهاية المرحلة الثانية، فنحن المخضرمين، نهاية الثانية وبداية الثالثة، نهاية الاستعمار، وبداية التحرر. عاصرنا حركات التحرر، وشاهدنا الثورات العربية، ورأينا ضياع فلسطين، وحدثت أمامنا الردة، وربما نكون في نهاية القاع، لذلك نحن في حاجة إلى ابن خلدون جديد، يؤرخ للمرحلة الثانية، عصر الشروح والملخصات، ويضع شروط النهضة للمرحلة الثالثة) من (علم الاستغراب).


الجديد في الأمر، أن حنفي يموضع بداية المرحلة الثالثة للحضارة الإسلامية من نهاية الوعي الأوروبي في العصور الحديثة على حد تعبيره، فنهضة الأنا لا تقوم إلا على سقوط الآخر والعكس صحيح.

إن (السباعية الثالثة) عند حنفي، تندرج في إطار تحقيب ميثولوجي، كما أسلفت، يبشر بانحطاط الغرب وبنهضة العالم الإسلامي، حيث السقوط والنهضة يتناوبان كل سبعمائة عام، ومن هنا، فإن جدل الأنا والآخر عند حنفي لا يعني تواصلاً مع الآخر، ولا بحثًا عنه، ولا استحضارًا له إلا بمقدار التحرر منه، إن جدل الأنا والآخر، يقوم عنده على تمثل مسارين للأنا والآخر (الغرب) في شكل خطين بيانيين يتقاطعان كل سبعمائة عام، بحيث (إذا كانت دورة الأنا في القمة تكون دورة الآخر في القاعدة، وإذا كانت الأنا في القاعدة تكون دورة الآخر في القمة)، وبحسب أطروحة حنفي، التي تكشف عن نزعة رغبوية وتبشيرية، يكون القرن الخامس عشر الهجري نقطة تقاطع تنبئ بصعود الأنا، وسقوط الآخر لمدة سبعة قرون أخرى.

هذا التصوّر للعلاقة بين الأنا والآخر عند حنفي، ينكشف في النهاية عن رغبة عارمة في التخلص من الآخر، كما يقول الطاهر لبيب، لا بل إنه يحيلنا من جديد إلى ما أسماه محمد عابد الجابري بـ(المعادلة المستحيلة الحل)، التي لا تتصور نهضة للأنا العربية الإسلامية إلا بغياب الآخر الذي لا ترسم له عند حنفي أي صورة قابلة للتثمين. إنه لا يرى في الغرب سوى انحطاطه، من هنا فإن بيانه عن الاستغراب، هو ومن أوجه عدة، بيان من أجل انحطاط الغرب.

إنها المعزوفة المستهلكة عند تيار عريض يقول بانحطاط الغرب وإفلاسه حضاريًا، وهذا ما يفسر الرواج الكبير لكتاب الفيلسوف الألماني اشبنجار عن (انحطاط الحضارة الغربية).

هكذا يفصح جدل الأنا والآخر عن نزعة رغبوية لها طابع ميثولوجي يدعو للرثاء والشفقة أكثر من الإعجاب والانبهار، كما يريد حنفي، ويفصح أيضًا عن نزعة خلدونية جديدة في قراءة تاريخ الحضارة، لنقل نزعة خلدونية مغلقة، وبلا أي أفق مستقبلي في قراءتها لتاريخ الحضارة؟.

ما أشبه الليلة بالبارحة؟ كأن الرجل - أي ابن خلدون - يشخص الأوضاع العربية الإسلامية المعاصرة، هذا ما يقوله الأنصاري في إطار إعجابه بقدرة ابن خلدون على النفاذ إلى الموضوعات، والإتيان بحلول لها، حلول نعجز نحن عنها، وهذا ما كان يقوله الجابري أيضًا، في إطار تقريظه لابن خلدون، وهذا ما يفعله الأنصاري عندما يشيد بقدرة ابن خلدون على التوسط بين العروبيين والإسلاميين، الذين تاهوا، وشطّوا في رسم حدود فاصلة بين القومية العربية والإسلام، وفشلوا في ذلك، في حين نجح ابن خلدون من خلال اعتماده على مفهوم العصبية، الذي لم يكن بحال ما يعني ذلك الإطار الضيق لعصبية القبيلة، بل عصبية القوم (القومية الحيوية)، التي هي ضرورة لنهضة الدين والدولة معا.

يتساءل الأنصاري: هل وصلتنا (الرسالة) الخلدونية بوجهيها، أم لا نزال في ريب من أمرنا؟.

2005*

* باحث وكاتب سوري " 1951- 2007 ".