اعتدنا أن نستشفع بعبارة المسامح كريم.. دون أن ندرك معناها حق إدراكه.. فنحن نستخدمها كثيرا، لنغري شخصا أغضبناه بالرضا.. أو ربما ننصح بها شخصا في موقف لم نشعر به حقا.. أو نمدح بها من يغفر زلة رفيقه.. ولن نفهم جوهر معناها الحقيقي، إلى أن تدور بنا الحياة ويطلب منا نحن السماح.. فالمسامح فعلا كريم.. لأنه يهب رضاه.. يهب حقه في أن يغضب أو يضجر.. يتنازل عن حزنه.. عن استيائه.. وهذا ليس بالفعل الهين..

المسامحة ليست كلمة نقولها فحسب، بل تعني أننا لا نحمل في قلوبنا، أي ضغينة ضد من أخطأ في حقنا.. تعني ألا ننوي رد الخطأ بالخطأ.. تعني أن نتنازل عن العين التي بالعين.. فإن أخطأ شخص ثم قابلناه بمثل ما فعل.. فلن نكون من المسامحين.. بل نصبح مخطئين أيضا.. فنحن نطلق على المسامح كلمة كريم، لقدرته العظيمة على التنازل والعطاء، ولكمية النبل الذي يحمله موقفه.

في بعض المواقف المسامحة تكون جدا سهلة.. ففي الحقيقة بعض الأغلاط لا تؤثر بنا بتاتا.. ومن قلة الوعي التدقيق بها وتضخيمها.. فجل من لا يخطئ.. والأشخاص الذين يتمسكون بضغينة، ضد من أخطأوا في حقهم «أخطاء بسيطة» لا تكاد تذكر.. ينهكون أنفسهم بشعور سلبي دون جدوى.. فضغينتهم هذه هي فقط عبء زائد يحملونه كل يوم.. فمن الذكاء أن نتغاضى عن المواقف التافهة.. ألا نحمّل أنفسنا ما لا تحتاج أن تحمله من البغض أو الاستياء.. وأن نزيح عن قلوبنا الهم.. فعلى الأرجح نحن أيضا سنزل في بعض المواقف.. فلسنا معصومين عن الخطأ، وسَنَوَد وقتها لو أن عثراتنا الصغيرة تُغفَر بسهولة..

في مواقف أخرى المسامحة تكون أصعب.. فيكون المخطئ قد لحق أذاه حياتنا.. وذقنا مرار فعلته.. وتأثرنا بها فعلا.. وهنًا المسامح كريم جدا.. لأنه من وصلنا منه ضرر.. من يؤذينا.. هو جان بالنسبة لنا... ويحمّلُنا كثيرا من العناء.. من جبر جروحنا.. من إصلاح ما أفسده هذا الأذى في حياتنا، إن تمّكَن منها وما إلى ذلك.. وفوق هذا العبء.. نحاول إقناع أنفسنا بالتنازل عن حقّنا بالغضب ورد الخطأ.. وعدم حمل الضغينة.. وقد نشعر بثقل عند فعل ذلك في البداية.. ولكن في الحقيقة.. الأيام كافلة بأن تُنَسّينا ما حدث.. فمع مرور الوقت سنستصغر أثر الخطأ ونتعداه، كما تعدينا غيره.. والمسامحة والغفران وتحرير النفس من أي مشاعر سلبية تجاه ذلك الشخص، سيسهّل علينا ذلك.. ويا له من أجر.. ويا لها من راحة.

والمسامح الأكرم من كريم.. «المسامح الكريم جدا جدا جدا» ذلك الذي يجب أن يوهب له وسام النبل.. هو الشخص الذي يسامح من تكرر منه الخطأ.. فربما نقوى على إجبار النفس، بعدم بغض من أذانا مرة... ولكن من أذانا مرتين؟! أمر صعب جدا.. ولن يتمكن من ذلك إلّا واعٍ قادر على ضبط النفس وطبعها... قادر على مقاومة الغريزة البشرية.. وهنا يجب أن نفهم أن المسامحة لا تعني أن نعيد المخطئ كما كان بنفس مكانته.. فمن جرحنا مرتين غالبا لن يكف عن الثالثة.. المسامحة هي عدم كره الشخص، وعدم تمني السوء له.. وعدم إضاعة الوقت برد الخطأ.. ولكن من أبسط حقوقنا كبشر، أن نضع الحدود التي تحمينا.. ألا نحبذ وجود من يضايقنا في إطار حياتنا.. فقد نهب شخصا فوق الفرصة فرصة أخرى.. ولكن عند الثالثة سيكون الحق علينا لا عليه.. فعندما يرينا شخص حقيقته من الواجب علينا تصديقها.. وتكرار التصرف مع توقع نتيجةً مختلفة، هو من تعريف الغباء.

المسامحة لا تعني هضم الحق في إنشاء العوازل.. المسامحة لا تعني إجبار النفس على القرب ممن يجرحها.. المسامحة لا تعني إلحاق الضرر إلى النفس.. المسامحة هي غفران الأخطاء في الدنيا والآخرة، وتصفية القلب من الشوائب، التي تبقى من الجروح وعدم رد الخطأ بخطأ.

المسامحة شعور إيجابي بحت، ولا يجب أن يجلب لنا أي سلبيات أو أضرار.. فلنكن مسامحين كريمين واعين بحقوقنا.. نغفر للجميع على قدر الاستطاعة.. ولكن نعرف أين ومتى نضع الفواصل والنقاط، لكي نحمي أنفسنا من الأذى والتعدي عليها.