كلما أوغلنا في التقدم نحو المدنية، وبالرغم من أن الموارد صارت في سعة، وبات الشح بعيدًا، فإن الحنين يزداد لتلك العادات الجميلة التي استنها الآباء والأجداد وتعاطوا بها دهرا طويلاً، ولعل منها عادات ما تزال تحافظ على حضورها وإن كانت بدرجات أقل مما كان عليه الوضع سابقًا، ومنها المنيحة التي صنفت ضمن أجمل عادات أهل البادية، دالة على تكافلهم وكرمهم ونبل مقاصدهم، وهي «المنيحة».

والمنيحة من المنح وهو العطاء بدون عوض أو بدل مادي.. والمنيحة تطلق على شاة الغنم أو المعز أو الناقة أو البقرة يدفعها الرجل إلى أخيه مدة من الزمن ليحتلبها ويستفيد من لبنها، وهذه منيحة الضرع، وقد تكون المنيحة في الظهر، كإعارة الدابة للركوب.

وتعد المنيحة من النظم الاجتماعية الجميلة التي لم تسنها مؤسسات مدنية، وإنما سنتها النفوس الطيبة التي تحثّ على مكارم الأخلاق، ومن هذه الأخلاق والعادات «المنيحة» وهي بمثابة التكافل الاجتماعي الذي يسود بين أفراد المجتمع، وهي عبارة عن منح إنسان ليس لديه شاة أوعنز أو ناقة مدة من الزمن ليحتلبها ويستفيد من لبنها، أو للركوب، وهي تمليك منفعة ترد إلى صاحبها بعد وقت معين.

فضل المنيحة

قال لسان العرب «المنيحة، منحة اللبن، كالناقة، أو الشاة، تعطيها غيرك يحتلبها ثم يردها عليك، وجاء فضلها بالسنة وفضل فاعلها فقد أخرج البخاري عن حسان بن عطية عَنْ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ، سَمِعْتُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز، مامن عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة».

مقاومة أعباء الحياة

يقول عزيز العنزي «المنيحة من الأعمال الجليلة التي كان يفعلها أناس كثر من أهل البادية في زمن كانت فيه الموارد شحيحة والظروف قاسية، وهناك من الناس من يتعرض للفقر وتقسو عليه الظروف، فيحتاج للمساعدة ممن حوله، حيث كان الفقير يُعطى من قبل قبيلته شاة أو ماعز أو ناقة، يستفيد من صوفها ولبنها وطليها وسمنها فترة من الزمن، وكذلك يستفيد من ركوبها مثل الإبل لكي ينقل أمتعته عليها من مكان إلى مكان، وبعد فترة زمن تمتد إلى عام يعود بها إلى صاحبها».

ويضيف «المنيحة قد تكون من المنح، وهو العطاء بدون عوض أو بدل مادي».

وعن تعرض المنيحة للموت أو غيره من الأذى، قال العنزي «لا يحاسب الذي تلقى المنيحة عن شيء سواء ماتت المنيحة أو تعرضت لكسر أو مرض وغيره مما تتعرض له الأغنام أو الماعز أو الإبل».

عطاء مفتوح

يوضح العنزي «يعطي كل شخص حسب قدرته، فهناك من يعطي شاة أو اثنتين أو ثلاث، وهناك من يعطي ناقة أو أكثر، أو ماعز أو أكثر، بهذه الطريقة الخيرية يستطيع الإنسان الضعيف أن يحصل على كفايته ومؤونته من اللبن والحليب والجميد والسمن والاقط والصوف، وينتفع به هو وأولاده».

بدوره، يشير جازم الرويلي إلى أنه ومنذ فترة طويلة كان والده يمنح الزوامل من الإبل، وهي التي تستطيع حمل الأمتعة لبعض الناس المحتاجين، ينقلون عليها أحمالهم وأمتعتهم.

كما قال سطام السلطاني إن أحد أعمامه كان يمنح عددًا من الإبل في أيام الربيع للمحتاجين ليستفيدوا منها في هذا الفصل ثم يعيدونها في نفس المدة المتعارف عليها بعد نهاية فصل الربيع.

أي الشعراء

قال أحد الشعراء الشعبيين، وهو يصف في بعض أبيات قصيدته بعض أهل النفوس الشحيحة التي تملك المال الوفير والخير الكثير، لكنها لا تنفق منه شيئًا في أوجه، موضحًا أنهم أقل من أن توضع أسماءهم في سجلات الطيب والكرم ومساعدة المحتاجين والضعفاء، مبينًا أنه «حتى المنيحة ما يعطونها وهي لا تشكل عبئًا كبيرًا عليهم، بل تعد بسيطة الثمن، ويحرصون كثيرًا على جمع المال داخل الأكياس فلا يخرجونها ويحبونها حبًا جما.

لا بارك بالنفوس الشحيحة اللي من الانفاق دايم مفاليس

أهل البخل ما من وراهم منيحة أموالهم دايم وهي داخل الكيس

تضاعف الأعداد وعدم الأخذ

بين ضيف الله القطيفان أن إعطاء المنيحة من أجّل الأعمال السامية والنبيلة التي يتصف بها أناس كثيرون ممن يسكنون البادية، وفي أوقات كانت الظروف المعيشية شديدة، فيظهر في هذا الوقت وهذه الأزمة أناس فيهم الخير والبركة، ويقومون بمساعدة من تجور عليهم الأيام ولا يملكون شيئًا من الماشية يستعينون به على الحل والترحال أو يستفيدون من نتاجه أكلًا وشربًا وصوفًا وسمنًا وزبدًا، وغيرها من مصادر الغذاء أو المعيشة، فتجد هناك من الناس الطبيبن والكرماء من يتصدى لهذا الفقر المدقع، فيمنحون الناس الذين لا يملكون شيئًا عددًا من الماعز أو الغنم أو الإبل فترة من الزمن للاستفادة منها وإعادتها لأصحابها، وقد تتضاعف أعداد هذه الماشية عندهم، ومع ذلك ترجع كلها لصاحبها الأصلي الذي منحها لهم إلا أنه غالبًا ما يتمنع عن أخذ ما زاد عما أعطاه، لأنه من أهل الكرم والشيم والشهامة».

المنيحة تنقذ رجل من الموت

يتداول أهل البادية حكاية عن رجل أنقذته المنيحة من الموت، ويتناقلونها للحث على المنيحة، ويقولون فيها إن «رجلًا من رجالات البادية سقط يومًا في بئر حين كان يحاول الحصول على الماء للشرب، وبقي في قاع البئر قرابة 40 يومًا، وبعد أن استدل عليه أهله وأخرجوه من قعر البئر وعالجوه، سألوه كيف أمضى الأيام الأربعين في تلك البئر العميقة بظلمتها، فقال لهم: في كل ليلة كان يأتيني رزقي من أكل ولبن وحليب، فآكل الطعام وأشرب الحليب حتى أرتوي، وبقيت على هذا الحال حتى قبل استخراجكم لي بيوم أو يومين، حيث انقطع عني المأكل والمشرب، فسألوه عما فعله في حياته حتى أتاه ذلك الرزق من الله، فقال: لا أذكر إلا ناقة لي منحتها لأيتام يشربون من حليبها ويستفيدون منها، فقالوا له أخذ أهلك تلك الناقة من الأيتام ظنًا أنك فارقت الحياة، وأن فترة المنح انتهت»، ولعل انتشار مثل هذه القصة وتداولها تأكيد على تكريس فضل المنيحة والصدقة، وأنها تقي مصارع السوء.

المنيحة

ـ عادة من عادات أهل البادية

ـ تمثل صورة من صور التكافل الاجتماعي

ـ يقدم فيها المانح شاة أو ماعز أو إبل لآخر محتاج

ـ يستفيد المحتاج من حليب المنيحة أو يركبها

ـ المنيحة تقدم على سبيل العارية للانتفاع بها

ـ ترد المنيحة للمانح بعد فترة معينة

ـ المنيحة قد تكون رأسًا واحدة وقد تكون أكثر

ـ غالبًا ما ترد المنيحة مع ما نتج عنها من مواليد

ـ على الأرجح لم يكن المانح يقبل ما زاد من مواليد ويتركها للمحتاج