ينخرط الناس في روتين الحياة الذي يبدأ ولا ينتهي، حيث تسكنهم الدوامة التي تمضي بزهرة أعمارهم وهم يركضون مع عجلة الحياة في لُهاث متواصل من أجل تحقيق شيء من معانيهم المتعددة في الحياة.

ويظل الجري خلف الدنيا وملذاتها يأخذ منهم شيئاً فشيئاً الكثير والكثير من صحتهم وملامحهم وأجسادهم، ولا يشعرون بذلك أو يتجاهلونه! حتى تظهر لهم الكثير من المفاجآت عندما يحتفلون بتخرج أبنائهم وبناتهم، فيتساءلون في حيرة:

متى مرت كل هذه السنين، وكيف مضت هذه الأعوام؟ عندها فقط يُقدم لهم «الفراغ المرعب» نفسه ليذكرهم بالكثير من الفترات التي مر عليهم فيها ولم ينتبهوا له! وذلك عندما تعينوا في مدينة نائية، أو عندما توظف أصدقائهم في مدن بعيدة! وغيرها من مراحل ظهوره المتعددة التي سنحت لهم فيها الكثير من الفرص التي يمكنها مساعدتهم في محاربة حضوره الحتمي لاحقاً.

ويا لصوت الألم الكامن في قلوبهم وهم يحضرون حفلات زفاف أبنائهم وبناتهم، ويحاولون ألا تسقط دموعهم! هم يحاولون حينها التماسك، وتبكي قلوبهم ليس كُرها لأبنائهم، وإنما لشعورهم بالفقد إذّ سيقضون بقية حياتهم يحتسون القهوة مع «الفراغ المرعب»، ويناقشون ذواتهم عن ماض ذهب أدراج الرياح دون أي وعي منهم.. نعم.. هم لم يستوعبوا اللحظة بعد! .

تقاتل الأمهات كثيراً لتقنع الأبناء بأنهم صغار على مرحلة الزواج، هم لا يكرهون لهم الخير، وإنما لا يريدون أن يواجهون الحقيقة التي تقول بأنهن قد أصبحن كبيرات في السن، وربما بعد زواج أبنائهم وبناتهن بفترة قصيرة سيصبحن جدات.. لسان حالهن: يا رب ما الذي يحدث؟ وكيف لهذه الساعة ألا تتوقف؟ وكيف لهذه المراية أن تظهر تجاعيد الزمن بكل هذه الوقاحة؟ وكيف يسمح صاحب المحل لنفسه أن يقول: يا أمهات تفضلن؟ وينشدن بصوتهن -أو بقلوبهن- قائلين: (نحن الجميلات نكره الساعة، نحن اللاتي صنعن الحاضر والمستقبل كلما نكبر نصبح أحلى وأحلى، سنكسر المرايا ونرى بعيون قلوبنا جمالنا الدائم، فأنوثتنا عصية على الزمن، وجمالنا حلاوة أرواحنا الندية).

فعلى قدر ما يحقق الأبوين من إنجازات كبيرة في إخراج أجيال صالحة على قدر ما يُقلقهن الفراغ القاتل، على قدر ما تقتُلهن تلك اللحظة التي يُغادر فيها الجميع أو الكثير، ويبقى المنزل يبحث عن الضجيج! يبحث عن ضحكاته المفقودة! ولكن لطف الله حاضر في كل مكان وزمان، إذّ يوفر لهم نظرائهم من الرجال والنساء الذين يذكرونهم بماضيهم الجميل، ويستذكرون معهم الكثير من تفاصيله الممتعة في لحظات يهربون فيها ولو لبعض الوقت من «الفراغ المُرعب»، فيضحكون حتى تعود ملامح الشباب عليهم.

حكمة المقال:

الشيء الذي لا يقوله الأبوان لأبنائهم وأحفادهم هو: (نحن في حاجتكم لا تتركونا نواجه «الفراغ المرعب».. لا تجعلوا قول الشاعر يتحقق فينا: «تُنسَى كأنك لم تكن»).

ولذلك على الأبناء والبنات، وحتى الأحفاد استيعاب ذلك، وعدم السماح لملهيات الحياة بترك آبائهم وأمهاتهم يفترسهم وحش الفراغ.. وإذا استوعبوا أن الموت يتخطف الناس من هنا وهناك سيعرفون أن البكاء بعد فوات الأوان لا يُجدي نفعاً، وسيظل ألم التقصير حينها يطاردهم مدى الحياة، خصوصاً أنهم لم يتركوهم ولو للحظة في طفولتهم.