نمو العقول عملية إرادية، إذا أردنا لها النمو نمت وارتقت، وإذا أردنا لها الجمود انتكست، فنحن من يريد بعد الله، ونحن من يقر، ونحن من يفعل ذلك، وهذا يدل على أنها اكتساب وليست موهبة. وما يميز أصحاب العقول النامية، هو حب الحياة، والعيش بالتفاؤل والنشاط وتقديس العمل، والانغماس في التعلم الذاتي والتفكير الناقد الإيجابي، يتميزون أيضا بالإصرار والحزم والسرعة في استغلال الفرص المتاحة، والسبق في المبادرة، وتكون مبادرتهم استجابة لأحداث مستقبلية وليس ردة فعل.

يتميزون أيضا بتجاوز النفس ومؤثراتها، مما يجعلهم يبذلون مزيدا من الجهد والمثابرة وحب العطاء، ومساعدة الآخرين في حل المشاكل التي تواجههم، فالجميع لديه تجارب ومواقف وظيفية سابقة، سواءً كانت جيدة أو سيئة، لكن ميزة هذه العقول أنها تستفيد من كل التجارب حتى السيئة يستطيعون تحويلها إلى تجربة جيدة.

هم أيضا هادئون وغير مغرورين، لكن لا يستطيعون أن يمروا مرور الكرام دون إحداث تغيير، وهذا بسبب الشغف في التطوير، فهم يريدون الارتقاء بالمهن أو الوظائف، وليس فقط تطورا مهنيا شخصيا، لأنهم يستمتعون بذلك ويشعرون بتحقيق الذات المهنية، ويسعدون بالإنجاز.

فنمو العقلية المهنية مسؤولية شخصية، لكن عندما يكون بدعم من المنظمة وتوجيهها، يكون المستوى أعلى وأرقى وأفضل وأشمل، فالمنظمات المتعلمة تركز على عملية النمو العقلي لبناء الجودة والنمو والابتكار من الداخل، لينعكس هذا على بيئتها الخارجية وسمعتها وقيمتها أو حصتها في السوق.

صحيح أن للإعلام دورا مهما في ترويج وبروز المنظمات الرائدة، لكنه دور يأتي بعد عملية البناء والتطوير الداخلي، والتهيئة والاستعداد، ولو ركزت هذه المنظمات الرائدة على تحسين السمعة من خلال الإعلام فقط والتصريحات الرنانة وادعاء الشفافية، والاهتمام بالعميل، سوف يذهب إليها الناس وسقف توقعاتهم مرتفعا، بناءً على ما سمعوه من التصريحات، ولن يجدوا نصف ما توقعوا وتنعكس السمعة.

فإذا أردنا تطوير منظماتنا، يحب أن نبني المجتمع من الداخل، فلنركز على العنوان، لأن المنظمات تنمو بنمو العقول التي تدار بها، والنمو العقلي يستند إلى ركيزتين أساسيتين، التحسين المستمر للسلوك، والاستمرار في عملية التعلم.

ليس المقصود من التعلم الرجوع إلى زمن التعليم وقضاء وقت طويل، ولو كان هكذا لتقدم العالم ونحن لازلنا نتعلم، وليس المطلوب من المنظمة إرسال موظفيها لدورات وتحمل التكاليف المالية لها، فالأمور أبسط مما نتصور.

هناك طرق أبسط من ذلك بكثير، فما نتحدث عنه من عملية التعلم، هذا متاح ومجانا من خلال البحث عن المعلومة والتعمق في المجال، ومعرفة ومتابعة كل ما يستجد في مجالك المهني، واستشراف المستقبل، وموارد التعلم الذاتي متوفرة وبوفرة هائلة، نحتاج فقط تحديد نقطة البداية، حيث ننطلق من أرض صلبة أو مبدأ واضح، وبتفكير عالمي، كما نحتاج أيضا إلى تحديد اتجاه واضح، ونحدد أهدافنا (أهداف المنظمة وأهداف الموظفين).

وكل ما سبق لا يحتاج أن نبذل جهدا لإيجاده، فالطرق سهلة والجسور ممدودة، والاتجاهات موجودة، وما نحتاجه هو الإدراك والوعي والفهم العميق، كل ما في الأمر أن نربط هذه الأهداف ببعضها. على سبيل المثال، فلنبدأ في عملية التعلم للمجتمع الداخلي انطلاقا من أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة وركائزها الثلاث، البيئية والاقتصادية والاجتماعية، ومن رؤية المملكة 2030 ومعرفة ركائزها (مجتمع حيوي، اقتصاد مزدهر، جودة الحياة)، ومعرفة رؤية وقيم وسياسة المنظمة وأهدافها الإستراتيجية، إضافة إلى اهداف الموظفين، وتشكل جميع هذه الأهداف الخطوط العريضة لنقطة البداية والمبدأ والاتجاه الموحد للجميع.

فلننطلق نحو التعلم والعطاء وتحسين السلوك ونمو العقول وازدهارها. ولتكن عدتنا وعتادنا نشر الثقافة والتوعية، وإعداد البرامج وتبسيط المفاهيم وتوحيد المصطلحات، والتركيز على المجال، وتضمين التعلم في المسار الوظيفي مثل الترقيات ومؤشرات الأداء والعلاوات، لأن العمل التقليدي أوشك على الانتهاء، فالعمل الروتيني سيصبح إلكترونيا والاقتصاد رقميا، المنظمات ستوظف العقول وليست الأجساد، كما أنه من غير المعقول تطور المنظمات من دون تطور موظفيها والعكس صحيح، فالعملية تكاملية بين الموظف والمنظمة.