في الآونة الأخيرة، انتشرت ظاهرة (قولوا ما شاء الله! طفلي ذو العام الواحد ثنائي اللغة!) بالمجتمع العربي، حتى أصبح الطفل لا يجيد قراءة سورة الفاتحة بل وحتى تكبيرة الإحرام في صلاته.

فقد احتشدت منصات التواصل الاجتماعي بحوارات الأطفال مع ذويهم باللغة الإنجليزية في المواقف الحياتية الطبيعية التي لا تستدعي لذلك، فأصبح الصغير يتحدث العربية المكسّرة غير المفهومة حتى يُظّن أنه غير عربي المنشأ، ناهيك عن اختلاط الثقافات والمبادئ والقيم وضياع الهوية العربية، والصور الاجتماعية التي تُنقش في عقل الطفل بفعل تلك اللغة منذ سن مبكر.

أحد أهم الأسباب لتدنّي المهارات اللغوية العربية لدى الطفل هي تعليمه لغة أجنبية في سن مبكرة جدا قبل إتقانه للغته الأم. فقد أثبتت العديد من الدراسات أن ذلك يؤدي إلى التداخل اللغوي في ذهن الطفل مما يفقده السيطرة على اللغتين معًا فتطغى واحدة على أخرى، الإنجليزية على العربية على سبيل المثال.

فهل هناك سن مثالية لتعلم اللغات؟ وما الأضرار المترتبة على اكتساب الطفل لغة أجنبية قبل إتقانه للغته الأم؟.

مما استوقفني جليًا للتفكر في حال الطفل العربي، هو ما حدث معي صباح اليوم حينما كنت بالفصل الدراسي للغة الإنجليزية أقدم للأطفال كلمات جديدة مع صورها التوضيحية، فسألتهم ماذا تعني fireman و mail carrier و grandchildren بالعربي، وجدت أن الأطفال لديهم تصور ذهني للمعنى، فهم مدركون تماما له ولكن يصعب عليهم إيجاد المفردات العربية الصحيحة لوصف ذلك المعنى! فلم تسعفهم لغتهم العربية سوى للتمتمة بكلمات شبه متقاطعة، مع الإشارة والتمثيل لإيصال المعنى! مما أرهقهم جسديا ونفسيا، حتى أنني سألت البعض منهم لكتابة ساعي البريد بالعربي على السبورة فأجابوني «ما نعرف» وبالفعل باءت محاولاتهم بالفشل أثناء الكتابة.

اللغة الأم هي جزء من شخصية الطفل، وهويته الثقافية والاجتماعية، هي أداة لا غنى عنها لتطوير الجوانب الفكرية والجسدية والأخلاقية والتعليمية للطفل.

فعند اكتسابه للغة العربية العامية من ذويه، يجب عليهم إكسابه اللغة العربية الفصحى بمفرداتها كتابة وتحدثًا واستيعابا، فكيف للطفل أن ينشأ دون مفردات بسيطة كساعي البريد ورجل الإطفاء والأحفاد وقائد المركبة وغيرها!.

إذا بدأ الطفل بتعلم اللغة الإنجليزية قبل أن يكتمل لديه النظام الفصيح، لن يكون قادرًا على السيطرة على كليهما، مما يؤدي إلى اهتزاز لغته العربية الفصيحة.

مثال على ذلك، إحدى الزميلات تخبرني أنها قادرة على الترجمة من العربية إلى الإنجليزية بكل سهولة، ولكنها لا تستطيع فعل العكس لضعف مفرداتها العربية، وصعوبة بناء جمل نحوية سليمة بالفصحى، وأخرى تخبرني بأنها قادرة على كتابة خطاب احترافي بالإنجليزية، بينما لا تسعفها لغتها العربية لصياغة أفكارها بسلاسة وإيصالها للقارئ بوضوح. هذا ليس بمدعاة للتباهي والفخر! بل ينم عن نقص الهوية وضعف الكينونة العربية.

فلذلك يجب توعية المجتمع والآباء بشكل خاص بأنهم أمام تحد كبير مع أطفالهم واللغات. وكل ما ذكر آنفًا لا يتنافى مع أهمية اكتساب الطفل لأكثر من لغة لتوسيع مداركه، حيث إن الدماغ يصبح قابلًا لمعالجة عمليات لغوية أكبر مما يقود الطفل للتفكير بلغات متعددة ومن جوانب مختلفة، حيث تشير الدراسات إلى أن الأطفال المتحدثين بأكثر من لغة، يحصدون درجات أعلى في الاختبارات المعرفية مقارنة بزملائهم أحاديي اللغة. ولكن ما يجب علينا فهمه هو علاقتنا الوثيقة في تشكيل هوية أبنائنا وقيمهم ومبادئهم وثقافتهم من خلال إقحامهم بلغات وثقافات وهويات متعددة قبل تشكيل هويتهم العربية، وإنشاء روابط وثيقة بينهم وبين لغتهم الأم حتى يألفها القلب قبل اللسان، وتعشقها الروح فتقدمها على ما سواها، فالعربية ثم العربية ثم العربية ومن ثم بقية اللغات الأخرى.