كان عبدالملك بن مروان أبصر أهل عصره بوجوه الكلام، وأدري جيله بالشعر الجيد، وأبلغهم كلمة، وأملحهم نكتة ممضة. وإذا كان الناس على دين ملوكهم، فعصر عبدالملك عصر نهضة استقل فيها الهجاء والغزل، وكانت الخطابة، وبلغ الشعر الخمري الأوج، فـ«أبو نواس» صهر صور الأخطل والأعشي والوليد وغيرهم ممن تقدموه في بوتقة فنه، فخرجت أبهج وأملح، وانبثقت له خمرية طريفة أعانه على إخراجها تحريم الخمرة، وظرفه وخفة روحه ولسانه، وسهولة بيانه.

فإذا رامينا مدنية العرب كان شعراء عصر عبدالملك كشعراء عصر الملك الشمس، فالمدح والغزل والهجاء اجتمع أشدها في عصر «ابن مروان»، عصر نهضة الشعر الرصين والكلام العربي المبين، والغزلان الإباحي والعذري استقلا في هذا العصر حتي إذا ما انقضى أمسى الغزل كالمقبلات التي تتقدم المآدب، فعمر وجمیل هما شاعرا الغزل، أما بقية الشعراء فبدد.

وأحسبك توافقني على كنية جديدة نطلقها على ابن أبي ربيعة. لقد رسخ عمر كنية «أبي الخطاب» في تلك الغارات التي شنها على الحريم، فـ«أبو جوان» تليق به أکثر، تيمنا بـ«دون جوان» الأوروبي.

إن «دون جوان» شخص أسطوري، أما «أبو جوان»، فكنية حقيقية، لأن جوان بن عمر كان رجلا صالحا، كما روى الأصبهاني، فليهنأ العرب بـ«دون جوانهم»، وماذا ينقصنا بعد؟!.

قال الجاحظ في حجج النبوة: «..والناس أشبه بأزمانهم منهم بآبائهم»، والحجاز كانت في زمن عمر مترفة، ثروة يضخمها الفي الذي ينصب فيها انصباب وفود الماء في بركة المتوكل، وماذا يعمل شاب قرشي سد عليه الأمويون وعلى أضرابه مطلع السياسة، وأغرقوهم في الأعطيات لئلا يتطاولوا إلى الخلافة.

أحس عمر أنه شاعر، وهبت في صدره الأهواء، فغنى لها، فحملته على أجنحتها إلى مقر. قد يكون ركب رأسه بعد موت أبيه، ففتنته مجالس الغناء والشراب والجواري والقيان والمواسم التي تتجدد كل عام عندهم، فمكة مشتي الأكابر، ومصيفهم الطائف، وعمر منهمر يسيل العقيق، فتسيل معه عواطفهم، ناهيك بالقصور والجنات التي قامت على آثار العاقول، کما أنبأنا عمر بقوله: هيج القلب مغان وصبر دارسات قد علاهن الشجر في مثل هذا المحيط الفتان، نشأ «أبو جوان».

لست أحدثك عنه وعن عصره ومحيطه وحياته، فقد كفانا ذلك الأستاذ الكبير جبرائيل جبور، فإن شئت أن تختص، فدونك ذلك الكتاب النفيس الذي ألفه.

إنه كتاب جامع رصين، فيه أناقة عمر في شبابه، وترتيب هندامه في زمانه، فشاعرنا «أبو جوان» كبير الحظ، حيا وميتا، وحسبه أن يُكتب عنه هذا الكتاب الفريد.

كان عمر غنيا جدا، فاستغنى عن الخلفاء ومدح النساء، ولم يجد له ندا بين شعراء عصره يهاجيه، فاختص بالغزل، وهل في الدنيا اختصاص أجمل من أن يوكل رجل بالجمال، فيتبعه أين وجده!؟. لم ينبغ عمر في الشعر منذ طلع، ولكنه مر في ثلاثة أطوار، تتمثل في أقوال زملائه المعاصرين.

قرزم عمر، فقال جرير إذ سمع قوله: شعر حجازى لو اتخذ في تموز لوجد البرد فيه. ولما دانت له القوافي، قال فيه: ما زال هذا القرشي يهذي حتى قال الشعر. ولما شق طريقه إلى خدور النساء ووصف حديثهن، قال فيه الفرزدق: هذا الذي أراده الشعراء، فأخطأوه وبكوا على الطلول.

ظل عمر ينحت ويعمل، استوحي بعاطفته ومحيطه، وانقاد للهوى، فلم يخرج من تلك الدائرة، ومن يستطيع الخروج من دائرة الهوى، فهو عند علماء النفس حصر الحياة السيكولوجية في نطاق واحد، واتجاه القوى الفاعلة نحو النهاية المشتهاة، وتكييف كل وجودنا كما يقتضي ميلنا، وهذا ما وجه عمر في فنه هذا التوجيه.

وقف عمر على الأطلال كما وقف المتقدمون، فقال وقصر عنهم:

ألم تسأل الأطلال فالمتربعا

ببطن حليات دوارس بالقما

وليس هو أول من وصف لنا حالته عند الحبيبة، وما إلى من ضروب الشهامة، فقد سبقه إلى ذلك امرؤ القيس، ويكاد يقع الحافر على الحافر إذا دخل هذا دار نعم وذاك خدر عنيزة، ويتشابهان أيضا في قصيدة «ذات البعل» الذي يغط غطيط البكر شد خناقه، ويتفق أيضا مع الفرزدق، واللتين دلتاه من ثمانين قامة، ولكنه كان أقرب إلى الواقع، لأنه أترف، والخنث واشب منهما.

وفي الغزل الذي جاءه من اليمن، كما قالوا، لم يفق عمر سواء، ولم يبتدع شيئا، فأين إبداعه إذن؟.

إن إبداع «أبي جوان» في «ليت هندا» وفي «هيج القلب» وقصائد أخرى من طرازها، ولكنه دونهما روعة وفنا. جعل عمر نفسه المحبوب، وروى لنا أحاديثهن في خلواتهن، فأرانا أنهن مثلنا من لحم ودم، وهذا الذي سبق فيه عمر، حيث كان شعره متصلا بنفسه كل الاتصال، بل هو صورة حياته اليومية، أخرجها قلم أوتي براعة القصص، ففتن الناس.

لم يتكلم «أبو جوان» بلغة امرؤ القيس وتلاميذه، بل باللغة التي تفهمها المرأة كل الفهم، وكان شعره غير مهتاج ولا مضطرم ولا متألم، لأنه محظوظ، يشكر اليسر لا العسر، فتح قلبه نصف فتحة، لا يترك شعره الغزلي أثرا عميقا في أنفسنا، لأنه لم يتألم ولم يحرم.

لا يعبر عن خوالج النفس إلا الكبت، وعمر متنقل من زهرة إلى زهرة كالفراشة، فهو كما يقول المثل عندنا «شمام هوا.. قطاف ورد»، مهنته الحب، وآلاتها الشعر والمال والفراغ، وكلها متيسرة له:

خيول مطهمة وخدم وحشم وعبيد وجواري، وأصدقاء يعاونونه جميعهم على حاجاته، يبثهم هنا وهنالك ككلاب الصيد، وهل «يصيد الظباء غير الكلاب»، كما قال ابن الرومي.

كان يجب أن يكون لعمر مكتب استخبارات، وسفارة لا تنقضي شؤونها وشجونها، فهو دائما يتصل بهذه وتلك وهاتيك، رسل تروح وتجي.. جناد وزير دفاع، وعتيق ذو الوزارتين: الخارجية. تستلذ شعر عمر كحكاية حال لا كعاطفة حادة نشاركه فيها، ففي أشد تحرقه أحس ذلك البرد الذي عاناه جرير، ليس هناك حب صحيح، هنالك تمثيل فصول ملذات وشهوات بطلها «أبو جوان» - كلاء بحفظ ربه المتكبر - فـ«أبو جوان» في قصصه ممثل أكثر منه شاعرا محبا محبوبا.

لا يغلي ولا يثور، بل يمثل مشاهده على حقها، وهي تكاد تكون واحدة.

يتلهى بالمرأة تلهي الطفلة بدميتها، ويقول في ذلك شعرا، فيجئ قصة صغيرة سهلة ذات اهتزازات أشبه بالتي تحدثها قصة غرامية أو إحدى حكايات «ألف ليلة وليلة»، ليس هذا لأن نفس عمر في ذلك الشعر، بل لأنه يمثل لك مشهدا يوقظ فيك نارا كامنة.

1944*

* ناقد وأديب لبناني «1886 - 1962»