فرضت الحرب الروسية - الأوكرانية، مراجعة كتاب «إرتيابات الوقت الراهن» للفرنسي جوستاف لوبون، الذي أصدره عام 1923؛ أي قبل مئة عام من اندلاع الحرب الجارية، متناولًا عبر صفحاته، تقريبا ما يشبه الأحداث المعاصرة نفسها.. الكتاب الذي ترجمه للعربية الدكتور باسل الزين وأصدرته «دار الرافدين»، ضمت فصوله العشرة التي تكون منها عناوين لافتة، وذات أهمية في أي محاولة لمقاربة حروب البشرية، في أوروبا بالذات.

أصول الحرب

كانت كل العناوين لها أهميتها تبقى ثمة عناوين لافتة أكثر في هذا الكتاب الذي بقراءاته يمكنك أن تفهم مايرجي حاليا بشكل افضل، ومنها (الشعارات السياسية، أخطاء السيكولوجيا في السياسة، اضطرابات سياسية وأخلاقية خلقتها الحرب، الصراعات من أجل السيطرة، الأوهام المتعلقة بإمكانية نزع السلاح، والارتيابات حول أصول الحرب، العلاقات الدولية والتحالفات.. وصولا إلى رؤى فلسفية للعالم، ومفاهيم فلسفية عن العالم)، وكان الكاتب يستشرف عبر هذه الفصول ملامح حقبة جديدة قبل مئة عام، ولم يكتف بمعالجة الأطر السياسية والاقتصادية والسيكولوجية، بل عمد إلى حشد جملة من المفاهيم الفلسفية، والأفكار العلمية، في محاولة منه لتقصي المسألة العالمية بعامة، والأوروبية بخاصة، من جوانبها كافة.

بنية التحالفات

يمكن لقارئ الكتاب أن يوجز بعضا من المضامين التي طرحها لوبون، في عدة نقاط منها، النظر إلى التحالفات التي أرسيت في الحرب العالمية الأولى على أنها تحالفات منجزة ونهائية ودائمة، في هذا الصدد يشير لو بون إلى رغبة إنكلترا في التسيد على العالم، ولهذه الغاية، جهدت بكل ما أوتيت من سبل من أجل الحؤول دون ازدهار فرنسا وتقدمها، ومن أجل مد جسور تلاق مع ألمانيا، ومنحها كل الوسائل اللازمة (اقتصادية، ومالية، وتجارية...)، كي تنهض من جديد.. وعليه ينشأ الارتياب الأول من التحول الجذري في بنية التحالفات، وهو أمر ينذر حتما بنشوب حروب مستقبلية، ليس أقلها ألمانيا إلى الانتقام من الخسارة التي عصفت بها، والشروط المذلة التي وقعت عليها.

المرمى البعيد

يرى لو بون أن الأهداف الثورية من خلال قراءة الثورة البلشفية، لم تعد كونها وعودا خلبية استطاع قادة الثورات توظيفها خير توظيف من أجل الوصول إلى السلطة، ويقول موحيا إلى ستالين «والحال أن قادة الثورات لم يتوانوا، بعد نجاح ثوراتهم، عن تكريس السلطات الاستبدادية، والتفرد بالحكم، وإنزال أقسى أنواع الظلم في حق المواطنين والثوار»، ذاهبا إلى أن التحول الثوري سنة تاريخية، وحتمية إنسانوية، ذلك بأن الخروج على الأهداف المتوخاة هو في حد ذاته تكريس للهدف المنشود المسكوت عنه، والمرمى البعيد المراد الوصول إليه.

التضامن الإنساني

يذهب لوبون إلى أن الحرب لا تنصف الغالب، وتهلك المهزوم، ذلك أن نتائجها الكارثية ستمتد لتطال المستقبل البعيد، لا سيما إذا عرفنا أن الغالب سيطمئن إلى انتصاره، والمغلوب سيؤوب من حقول ضياعه، ويحاول جاهدا أن يقلب هزيمته انتصارا؛ لذلك نراه يتوجس بشدة من الحراك الألماني، ومن نهضتها الاقتصادية، وثورتها الصناعية. والخلاص الوحيد بالنسبة إلى لوبون، يكمن في وعي الشعوب وماهية ترابطها، وعدم قدرتها على الاستغناء بعضها عن بعض، عند هذا الحد تلعب المنفعة المشتركة دور الجامع بعد أن لعبت الحروب دور المفرق، ويحل التضامن الإنساني المبني على أسس التلاقي والحوار محل التخاصم والتنابذ والاعتراك، مؤكدا أن الرهان معقود اليوم على وعي الشعوب بمصالحها، ومعرفتها أن الحروب لا يمكن أن تعود بالنفع عليها، حتى وإن استطاعت أن تحقق من خلالها انتصارات ساحقة.

صراعات محتدمة

يرجع لوبون اختلال التوازن الحالي؛ «يعني زمنه بدايات العشرينيات من القرن الماضي» إلى ارتدادات تاريخية، ظلت تكرر نفسها، وما تحدثه الحرب الروسية الأوكرانية اليوم يمثل مصداقية لطروحات لوبون الذي قال: «فحقبتنا تتأرجح بين التأثيرات الوراثية التي وجهت العالم قديمًا، والضرورات الناجمة عن الاكتشافات العلمية الحديثة»، بعد أن أوضح قبلا «ولد التطور العلمي الحديث ضرورات اقتصادية تتعارض بوضوح مع الدوافع الانفعالية والصوفية، التي وجهت أفعال الناس، منذ بدايات التاريخ»..

هذا التعارض، الذي يتفاقم في كل يوم، هو سبب من الأسباب البعيدة الكامنة وراء الاختلال.

وعليه، كيف بالإمكان التوفيق بين الطموحات، والمنافسات، والكراهيات، التي تدفع الأعراق نحو صراعات محتدمة، والتداخل الاقتصادي الذي يجمعها من خلال ترابط قوي للغاية، إذ سرعان ما يطال الضرر، الذي يلحق بواحدها، كل الأعراق الأخرى؟

رؤية استشرافية

ويطرح لوبون فكرة الواقع حول «أن هيمنة القوى الانفعالية والصوفية على القوى العقلانية يجب أن تكون حاضرة في الذهن دائما، عندما نريد أن نفهم نشأة الحوادث الكبرى التي تبلبل حياة الشعوب، لقد وقع دعاة السلام ضحيتها، عشية الحرب، لكن سرعان ما أثبتت لهم الوقائع أن منطق الأساتذة العلمي لم يحكم التاريخ بعد، فالمنطقان الانفعالي والصوفي اللذان يوجهانه يخضعان لقوانين أخرى مختلفة تماما»، وفيما بدا كأنها رؤية استشرافية للوبون قبل مئة عام نجده يقول: «إن الرغبة في يجب ألا تكون أوروبا المادية وحدها قادرة على إعادة البناء فحسب، بل يجب أن تعهد هذه المهمة أيضا إلى أوروبا الأخلاقية، مع ذلك راحت الطموحات، والكراهيات، والحاجات تتنامى، في حين العمل، والالتزام، والشعور بالواجب أخذت كلها تضعف أكثر فأكثر، لقد تزعزعت كل البنى الاجتماعية القديمة بفعل النزاع العالمي، إلى حد راحت الشعوب تتلمس طريقها نحو مؤسسات جديدة، وإذا ما عادت باستمرار إلى المؤسسات القديمة، فذلك على الأرجح لأنه لا توجد مؤسسات أخرى».

الدوافع الانفعالية

إلى جانب غوصه في التحليل الاقتصادي والتاريخي والاجتماعي عبر صفحات الكتاب، لم يتخل لوبون عن مقاربة البعد الفلسفي في طرحه، خاصة -بحسب المترجم- لجهة مقارنته الأديان التوحيدية بالأديان المتعددة الآلهة، وبحثه في نشأة العالم، وبنى الأخلاق، وتشكيل اليقينيات، ودور العلم في الكشف عن العلل الأولى.. إلخ.

خلاصة القول، يطرح كتاب ارتيابات الوقت الراهن مجموعة من الأسئلة المفتوحة، ولا يدعي أنه يملك إجابات عنها، فجل ما في الأمر أنه يحاكي ضمير العصر، ويستنجد بالإنسانية التي يعي جيدًا أن الدوافع الانفعالية هي التي تتحكم بها، ومع ذلك، يأمل لو بون في أن يكون قد قال كلمته قبل أن يمضي.

ملامح

*يمكن للرأسمال المادي لأي شعب أن يدمر في أي حرب.

*الرأسمال الأخلاقي، غير قابل للتدمير.

*الرأسمال الأخلاقي يسمح بإعادة تكوين الرأسمال المادي سريعًا.

*سوف يتوقف تاريخ أوروبا القادم، على مصلحة الأمم الكبرى، خلال فترة السلام.

*محكوم على الشعوب أن تُبيد بعضها بعضًا عن طريق النزاعات المسلحة.

*إذا أمكن العقل أن يمارس دورًا في علاقات الشعوب، فإنها ستقتنع بأن مصلحتها مساعدة بعضها بعضا.

*ليس من السهل دائما معرفة مسببي الحرب الحقيقيين.

*يتعذر فهم أصول الحرب العالمية عندما نخال أنها نجمت عن إرادة ثلاثة أباطرة أمروا بها.

*لا تعوزنا المستندات كي نكتب اليوم تاريخ الحرب وأسبابها.

*ما يعوزنا هو صفاء الحكم الذي يسمح لنا بدراسته كما لو كان يتعلق بحوادث.

*ينبغي للتضامن بين الشعوب أن يكون قانون الأزمنة الحديثة.

*كراهية حادة تسيطر على العالم.

*كراهية بين الأمم، وبين الطبقات المختلفة، الأمة نفسها بين الأحزاب السياسية التي تعود إلى كل طبقة.

*الارتياب بين الحكام، والكراهية بين الشعوب، الدافعين السيكولوجيين للسياسة الحالية.

جوستاف لوبون:

*طبيب ومؤرخ فرنسي.

*من أشهر المؤرخين الأجانب، الذين اهتموا بدراسة الحضارات الشرقية والعربية والإسلامية.

*ولد في مقاطعة نوجيه لوروترو، بفرنسا عام 1841.

*درس الطب، وقام بجولة في أوروبا وآسيا وشمال إفريقيا.

*اهتم بالطب النفسي وأنتج فيه مجموعة من الأبحاث المؤثرة عن سلوك الجماعة، والثقافة الشعبية، ووسائل التأثير في الجموع.