مثلما تكشف الصناديق السوداء في الطائرات عن أسرار رحلاتها، وتفاصيل ما جرى في كبينة القيادة خلال تلك الرحلة، يشبه كثيرون الهاتف المحمول للأشخاص بالصناديق السوداء التي تحمل أسرارهم، وربما كذلك عثراتهم وإخفاقاتهم، وربما تحتوي على أشياء شديدة الخصوصية تمس صاحب الهاتف المحمول، وبعض من حوله كذلك.

وكثيرا ما تحمل هواتفنا جميعا صور ومقاطع فيديو تخصنا، وتخص بعض المقربين منا سواء كانوا أصدقاء أو حتى غيرهم، كما أنها تحمل ملاحظاتنا وأرقام هواتف من تواصلنا أو نحتاج للتواصل معهم.

ولأن الإنسان محكوم بأجله، وقد توافيه المنية على نحو مباغت، فإن تساؤلات كثيرة تطرح عن مصير ذلك الصندوق الأسود، وكيف سيتعامل الورثة معه، وهل من المباح لهم هتك أسراره، وماذا يحدث لو وجدوا فيه ما لا يسرهم، أو ما يغير الصورة التي ربما يحتفظون بها في ذاكراتهم عن الراحل الذي خلّف وراءه صندوقا أسود لا أحد يعلم ماذا يحتويه.

وإذا كانت مقولة «إكرام الميت دفنه» قد سادت من دون أن يثبت رفعها إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وإن كان معناها صحيحا، متمثلا في استحباب تعجيل دفن الميت، فإن كثيرين ينادون بـ«دفن جوال الميت» كذلك بعد رحيله، لدفن أسراره والامتناع عن كشفها، فإن هناك من يرى أن الكشف على هذا الجوال قد يكون لازما وضروريا، ففيه قد تحفظ بعض رسائل البنوك، وما للفقيد من مبالغ على الآخرين يفترض تحصيلها، أو ما عليه لهم من ديون يجب قضاؤها من تركته قبل توزيع إرثه على ورثته، إلى آخره.

حرمة الميت

يشير المستشار الأسري والتربوي أحمد النجار إلى أن القاعدة العامة، تشير إلى أن حرمة الميت، هي ذاتها حرمته وهو حي، فكما أننا نحفظ أغراضه من التفتيش أو العبث بها من دون إذنه وهو حي، فمن باب أولى أن يكون ذلك بعد مماته، ما لم يتول هذا الأمر (الاطلاع على جوال الفقيد) شخص مخول ومُختار من قبل أفراد الأسرة، يفضل أن يكون من خارج أفرادها، بحيث يكون محايدا وموصوفا بالثقة، كما أن كونه غريبا يجنب الورثة مغبة تحمّل هموم تقليب مواجع الذكريات، كما لا بد أن يكون هذا الشخص الذي سيطلع على الجوال ممن لا يرتبطون مع الفقيد بعلاقة عاطفية قد تتأثر سلبا أو إيجابا بما قد يتكشف له في جوال الفقيد، والمجال مفتوح للاختيار، فبعض العوائل تختار توكيل محامٍ، وأخرى لا تريد تحمل الأتعاب فتختار شخصا آخر وهكذا، ويتم التأكيد عليه بعدم نقل إلا ما يستدعي النقل».

إبراء الذمة

يشدد النجار على أنه «لا يجب أن يكون فتح جوال الميت إلا لرؤية ما له أو ما عليه من ديون في حال وجودها، وذلك إبراء لذمته».

وأضاف، «في الأيام الحالية أرى أن يتلف الجوال بما فيه، ويتم حين إعلان الوفاة الإخبار بأن من له حق في ذمة الفقيد فليطالب به ويسد هذا الباب قبل فتحه».

وتابع، «عدم فتح الجوال له إيجابيات على عدة أصعدة، منها أن من الخير أن تظل للإنسان ذكرى طيبة حتى ولو لم تكن حقيقية».

ميراث وأمانة

في هذا الصدد، توضح المحامية، المستشارة القانونية رباب المعبي أن «الجوال كجهاز يعد ميراثاً للورثة، وفي الغالب يتم التعامل معه على أنه ذكرى غالية من فقيدهم، حيث يفضلون الاحتفاظ به على هذا الأساس، ويتم تسليمه لأحدهم على نحو ودي بينهم في ما بينهم».

وتفصّل «أما محتويات الجوال وما يتضمنه من معلومات ومعاملات مالية وحسابات بنكية فهي مسؤولية وأمانة، لأنها تتعلق بالتركة، ولا يحق التصرف فيها إلا بالاتفاق والرضا بين جميع الورثة».

وتضيف «جرت العادة بعد وقوع الوفاة أن يتم تعيين أحد الأبناء أو الإخوة لإدارة شؤون العزاء، ولكن البعض ومع صدمة الوفاة يغفل عن أهمية الحفاظ على (خصوصية الجوال) وهو يعد من الأمانات والعهود والمواثيق التي يجب عدم المساس بها».

سوء فهم

عن احتمالية وجود أشياء شديدة الخصوصية في جوال الميت (مثلا صور أو مقاطع أو حتى محادثات) قد يكون المتوفى/اة أخفاها حال حياته، وتمت كشفها ورؤيتها بعد وفاته، أكد النجار حصول كثير من مثل هذه الحالات، مبينا أن كثيرين ممن يقدمون على مسألة كشف ما في الجوال من أسرار كانت تخص صاحبه ندموا بعد كشفها بشدة، وتمنوا لو بقيت صورة الراحل في أذهانهم نقية جميلة.

وقال، «الفرق في حال تم فتح الجوال أثناء حياته كان يتيح له حق التبرير والتوضيح والشرح، وذلك على عكس الحال حين فتح جواله بعد وفاته واكتشاف أن فيه ما قد يراه الآخرون انتقاصا من صورة الراحل أو تغييرا لبعضها أو كلها، وهنا لا يتاح له تبيان وجهة نظره، ولا توضيح أسبابه، كما أن هذا الكشف على جواله قد يكشف كذلك أسرار أصدقائه وليس أسراره فقط، وتلك فيها خصوصيات لآخرين ليس من حق ورثة الميت الاطلاع عليها أو معرفتها».

ويكمل «تدور بين الأصدقاء أحاديث فيها كثير من الأريحية، وقد يتحدثون عن مشاكل تخص أيا منهم، وربما تحتوي على خصوصيات شديدة جدا تصل إلى حد أمور تؤثر على (السمعة) في حال كشفها، وهنا ليس من المفترض بأهل الفقيد رؤيتها لو لم يقوموا في التقليب في هاتف الراحل».

ليس من حق الورثة

تؤكد المعبي أن محتويات الجوال تعد ملكية خاصة لصاحبه، وقالت «لكل شخص الحق في حماية أسراره وخصوصياته، وعند الوفاة تنتقل ملكية الجهاز للورثة، ولكن دون المحتوى الداخلي ما عدا الأمور المتعلقة بالتركة، ومحتوى الجوال يعد حقا خاصا بالمتوفى، وليس من حق أحد تفتيشه لأجل التطفل والفضول، والجوال يعد من حرمة الميت التي لا يحق العبث بها».

وأضافت، «سرت العادة أن الأسرة تتولى أمر المتوفى وإجراء ما يلزم من تدابير الدفن والعزاء، ويتم استخدام جوال المتوفى لإرسال رسالة عامة تفيد بوفاته وموعد ومكان العزاء لجميع الأرقام المضافة، ليتم العلم بحدوث الوفاة وتقديم واجب العزاء ممن يرغب بذلك».

جريمة معلوماتية

عن كون جوال الميت يعامل مثل معاملة جوال الحي في الجوانب المتعلقة بالجرائم المعلوماتية، حال الإطلاع عليه (من غير الورثة المخولين) أم لا، بينت المعبي أن «الإنسان محترم مصون في نفسه، وفي خصوصياته، حال حياته، وحال موته، شرعاً ونظاماً، وقد سَنَّت المملكة العربية السعودية نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية، الذي يهدف إلى احترام خصوصية الأفراد أحياء أو أموات، إلى جانب الحد من نشوء الجرائم المعلوماتية والتعدي على الآخرين، وحماية المصلحة العامة، والأخلاق، والآداب العامة».

وأضافت، «المشرع حدد تلك الجرائم والعقوبات المقرَّرة لها، وورد في المادة الثالثة من نظام الجرائم المعلوماتية أن تفتيش الجوال يعد من التنصت على أجهزة الحاسب الآلي والأجهزة الذكية، وهو ممنوع ومجرم نظاما، ويعد من قبيل التعدي واختراق خصوصية الآخرين، والعقوبة تتضمن الحبس لمدة لا تزيد على سنة، وغرامة لا تزيد على 500 ألف ريال في حال ثبوت الجرم، ومن حق الورثة اتخاذ الإجراءات النظامية تجاه المتعدي بالبلاغ والمحاسبة للتعدي على خصوصية المتوفى».

تعيين قبل الوفاة

حول وجود مادة قانونية تنص على عدم فتح الجوال من قبل الورثة، إلا بتفويضهم لشخص واحد فقط يقوم بهذا العمل، أو في حال وجدت وصية تفيد بعدم فتح الجوال إلا من قبل شخص بعينه سماه الراحل قبل وفاته، بيّنت المعبي أن «الشخص المتوفى يحتمل أن يكون له من الأسرار التي لا يريد أن يعلمها أحد، ومن الأفضل ولدرء المشكلات التي قد تحدث أن يسلّم الجوال لشخص ثقة وأمين من الأسرة للاطلاع على ما يحتاج إلى الاطلاع عليه، كما لو كان عليه دين، أو يكون قد ترك وصية، وما أشبه ذلك، فهذا أمر لا بأس به، ولا إشكال فيه، وهو من باب البر بالميت، وإتمام حقوقه وحقوق الورثة، ويمكن للشخص أن يعين شخص بعينه ويخول له فتح جواله إذا ما وافته المنية، وذلك لتحقيق المصلحة الخاصة للورثة، خصوصاً إذا كان كانت هناك تعاملات مالية وبنكية ومعلومات تفيد الورثة».

وأكملت «في كل الأحوال، لا بد، بل ويجب الحفاظ على أسرار المتوفى الموجودة على الهاتف (فمن ستر مسلما ستره الله تعالى يوم القيامة) وعليه فتح الجوال بالطريقة نفسها التي كان يحرص عليها المتوفى قبل أن تقع الوفاة، وهذا الحق يكون لأهل الميت من أصحاب الميراث، ولهم توكيل أحد الأشخاص الثقاة، والمستحسن أن يتم حذف المحتويات التي لا يرغب المتوفى بظهورها كما لو كان على قيد الحياة».

لا ضوابط

يبين المحامي الدكتور خالد العمري أنه ليس هناك ضابط معين لمسألة فتح جوال الميت، ولم ينص النظام على معالجة مثل هذه الأمور، ويقول «لكن مع ذلك، جرى العرف والعادة على أن الابن الأكبر أو الأخ الأقرب للمتوفى أو أحد والديه أو أخته هم ذوو الحق في فتح الجوال، وذلك لأن محتوى الجوال قد يتضمن صور ومقاطع فيديو أسرية تجعل من الصعب تسليمه لصديق أو غريب ليفتحه، لأن ذلك يسمح له بالاطلاع على محارم المتوفى».

مبررات لفتح جوال الميت

ـ قد يحتوي الجوال على رسائل بنكية

ـ ربما يكشف عن ديون للفقيد تصبح من حق الورثة

ـ ربما يكشف عن دين على الفقيد يجب سداده قبل توزيع التركة

ـ قد يظهر معلومات ومعاملات مالية ذات صلة بالتركة

مبررات رفض فتح الجوال بعد وفاة صاحبه

ـ للميت حق في حفظ أسراره كما كان حال حياته

ـ ربما يكشف الجوال أشياء تسيء لصورة الفقيد

ـ ربما يكشف أسرار وخصوصيات آخرين مثل أصدقائه

ـ ربما يحتوي صورا لمحارمه لا يجوز الاطلاع عليها من غرباء