نسمع كثيرًا، عن الوضع الأسري الهش في المجتمعات الغربية، والتفكك في نسيج العائلة وضعف التضامن بين أفرادها. فما حقيقة هذا التفكك الأسري في المجتمعات الغربية وما أسبابه؟ وهل تقتصر حالات التفكك الأسري على المجتمعات الغربية أم أن كل الشعوب تعاني أو أنها ستعاني مستقبلًا من حالات التفكك الأسري؟

صحيح أن المجتمعات الغربية تعاني التفكك الأسري، ولكن حقيقة هذا التفكك الأسري ليست كما نعتقد أو يدور في عقولنا. فلأن المجتمعات الغربية سبقت غالب شعوب العالم في هجرة أفرادها وعوائلها من الريف إلى المدينة، فإنها سبقتهم أيضًا في عملية الانتقال من نمط الأسرة الممتدة إلى نمط الأسرة النووية (Nuclear Family)، وهذا الانتقال كان نتيجة حتمية للعيش في المدن ومجتمعات السوق الاستهلاكية، فالشعوب تبرمج نفسها وفق نمط الاقتصاد بصورة آلية غير واعية. ومجتمعات التصنيع تتجه تدريجيًا لتبني نمط الأسرة النووية لأنه يتماشى مع تقسيم العمل في اقتصاديات السوق القائمة على التصنيع.

تعرف الأسرة النووية في علم الاجتماع بأنها الأسرة التي تتكون من الزوج والزوجة والأبناء غير المتزوجين الذين لا يتجاوز عددهم الاثنين أو الثلاثة كحد أقصى ويعيشون تحت سقف واحد. هذه الأسرة الصغيرة نشأت نتيجة لتفاعلات اجتماعية واقتصادية بسبب عوامل التحديث الصناعي، فبعد انتقال السكان من الريف إلى المدينة فإنهم يتعرضون لجملة من الإكراهات الاجتماعية والاقتصادية التي تفرض عليهم التكيف التدريجي مع طرق الحياة وأنماط المعيشة الموجودة في المدن، ومن هنا تبدأ الأسرة الممتدة تتفكك تدريجيا لأنها تعجز عن مقاومة عوامل التحديث في المدن، ففي المدينة تبدأ النزعة الفردية للظهور على حساب أي تكتلات أسرية أو عشائرية.

تتكون الأسرة الممتدة من ثلاثة أجيال على الأقل يعيشون تحت سقف واحد: أهل الزوج والإخوة بالإضافة إلى الزوج والزوجة والأبناء والبنات والأحفاد وربما غيرهم من الأقارب، تمتزج علاقاتهم وتتداخل وتتشابك مصالحهم وممتلكاتهم، ولا يقتصر التلاحم بينهم على المستوى الاقتصادي والاجتماعي بل يتعداه نحو تبني معتقدات دينية موحدة وعادات وأعراف اجتماعية يراعيها الجميع. وهذا النمط من الأسر يستطيع التعايش في مجتمعات الرعي والزراعة ولكنه عندما ينتقل للمدينة فإنه يصطدم بنمط اقتصادي مضاد ونفعي لا يؤمن إلا بقيم السوق ومبادئه، ومن هنا يبدأ الصراع الوجودي بين الأسرة الممتدة ومجتمع السوق الاستهلاكي، ويبدأ مجتمع السوق في تفكيك كل الأواصر والقيم والمعتقدات للأسرة الممتدة لكي تندمج في منظومة السوق الثقافية.

بدأت المجتمعات العربية في تبني نمط الأسرة النووية وأصبح سائدًا وطبيعيًا بل ومرغوبًا، مما يعني أنها أخذت تتشرب بصورة لا واعية قيم ومبادئ السوق، وبدأت فعليا في إعادة توزيع الأدوار الاجتماعية بين الرجل والمرأة بما يتماشى مع تقسيم العمل في مجتمعات التصنيع. وفي السياق نفسه ظلت الأسرة الممتدة بما تحمله من قيم وعادات تواصل التأثير في المجتمعات الحديثة، ولكن هل هي قادرة على التماسك ومواصلة معركتها الثقافية ضد خصمها اللدود: السوق؟