الأصولية ليست مقصورة على الحضارة الإسلامية وحدها، بل هي ظاهرة طبيعية في كل حضارة تصل في مسارها التاريخي إلى مرحلة التأزم، فقد سارت الحضارة الغربية منذ عصورها الحديثة في الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر. والنهضة في القرن السادس عشر، والعقلانية في السابع عشر، والتنوير في الثامن عشر، والثورة الصناعية في التاسع عشر، ثم تأزمت في القرن العشرين، حربان عالميتان طاحنتان، عنصرية وقومية، وبدأت تهدم ما بنت، فظهرت الاتجاهات اللا عقلانية واللا علمية واللا إنسانية والنسبية والشكية واللا أدرية والعدمية، تنقض القانون والنظام والنسق، وتقول بالتناقض واللا معنى باسم ما بعد الحداثة.

وكما ظهرت الثقافات المضادة في الستينات أثناء حرب فيتنام ورفض قيم المجتمع الاستهلاكي، وظهر مفكرون وفلاسفة ينظرون لثورات الشباب وحركات المعارضة الجديدة مثل (ماركوز) استمرت الثقافات المضادة في عصر العولمة في تظاهرات سياتل وبراج ولندن وباريس ودافوس وجنوة، ترفض البون الشاسع بين الأغنياء والفقراء، والهيمنة باسم ثورة الاتصالات، والعولمة باسم العالم قرية واحدة، وحمل لواء المعارضة الأصوليات اليسارية واليمينية، العلمانية والدينية، الجماعات المنظمة والفوضوية، والأقليات العرقية والطائفية، وتنوعت جماعات الرفض السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وتشكلت جماعات جديدة وديانات جديدة في المجتمعات الصناعية المتقدمة، تجمعات مغلقة ترفض الدولة الفيدرالية، وهيمنة الأغلبية البيضاء على الأقليات الملونة عودا إلى الثقافات التقليدية، ثقافات الجلد، ضد تكنولوجيا المعلومات واتصالات الفضاء وأخبار البورصات وأسواق النقد العالمية، وتبنى بعضها ديانات الشرق مثل جماعة راداكرشنا، يحلقون الرءوس، ويلبسون المسوح، ويضربون الأجراس، وينشدون الترانيم، وانتشرت الطرق الصوفية الإسلامية والمسيحية واليهودية والبوذية والهندوكية في قلب المجتمعات الصناعية المتقدمة، والبعض رد الاعتبار للدين والمؤسسة الدينية، وغرق في السحر والخرافة والأساطير، فكل تطرف يؤدي إلى تطرف مضاد، من ما بعد الحداثة إلى ما قبل الحداثة، ومن المعقول إلى اللا معقول، ومن العلم إلى الخرافة، ومن العلمانية إلى الدين، ومن النظام إلى الفوضى، ومن الحرية إلى العبودية، ومن الديمقراطية إلى الطغيان، ومن المجتمع الديني إلى المجتمع الصناعي العسكري، ومن التقدم إلى العود إلى عبق التاريخ، وباختصار من الوجود إلى العدم، ومن البداية إلى النهاية.

والأصولية ليست فقط دينية، بل هناك أصوليات متعددة، الدينية إحداها، هناك أصولية علمانية أيضًا ترفض أي تعامل مع الدين في الحياة العامة، وأصولية اقتصادية لا ترى إلا الربح والسوق والمنافسة، وأصولية اجتماعية لا ترى إلا المجتمع المدني وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والعقد الاجتماعي، وحقوق الأقليات دون حقوق الشعوب، وأصولية سياسية ترفض أي استقلال سياسي للدولة، وتأبى إلا التحالف مع الدول الكبرى في نظام واحد للعالم، وأصولية ثقافية تتمسك بالهوية ومظاهرها التقليدية، وتقع في الأشكال والرسوم بصرف النظر عن المضمون.

هناك أصولية مسيحية تدافع عن حقيقة المسيحية، ولا تعترف بكل التراث النقدي التنويري للدين، وتنسق مع الأصولية اليهودية لتأكيد العهد وأرض الميعاد وتحقيق الوعد الإلهي والاصطفاء لبني إسرائيل، تلتقي مع الأصولية الإسلامية في رفض مظاهر الحداثة الغربيةK وفي مقاومة تحديد النسل وحق الإجهاض والشذوذ الجنسي في مؤتمر السكان وفي ضرورة العودة إلى الإيمان وأن الدين هو الحل، وقد مثلت الرومانسية في الغرب هذا الشكل الأول من العودة إلى الأصول، والدخول إلى الأرحام، واسترداد الروح بعد اغترابها في العالم.

إن حوادث العنف الأخيرة، العنف والعنف المضاد، تدمير مركز التجارة العالمي وجزء من البنتاجون والعدوان على الشعب الأفغاني على الرغم من الضحايا الأبرياء من الطرفين فإنها صدمة لكل الأطراف وربما نقطة تحول في تاريخ العالم، إنها الحرب العالمية الثالثة في أول القرن الواحد والعشرين في صيغ جديدة تتجاوز الجبهات التقليدية بين الجيوش والدول والمعسكرات بين عدوين معروفين، يختلط فيها الواقع بالخيال، وتمتزج فيها الحقائق بالأشباح، ويخلق العدو من الوهم، ويصنع بالخبل.

2002*

* باحث وأكاديمي مصري «1935 - 2021»