سبعة أعوام من تدريب شارك فيه العديد من الجنرالات الروس في سورية، ومن تجريب ما يقرب من أربعمئة سلاح حديث فيها، وإعداد اختصاصيي «الأرض المحروقة» مثل «جنرال حلب» الكسندر كورنيكوف، مضافة إلى شهور من التعبئة والحشد ومراجعة الخطط العسكرية والسياسية والبروباجندية، كانت أكثر من كافية لتكون القوات الروسية جاهزة لحرب يُفترض أنها إرهاص لـ«نظام عالمي» مختلف عما عُرف منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أو بالأحرى لروسيا مختلفة عما كانت بعد نهاية الحرب الباردة...

الفترة ذاتها كانت أيضاً كافية لأوكرانيا، بمساعدة غربية، كي تعد في كل جبهة ومدينة وبلدة «استقبالاً» مفاجئاً للجيران الغزاة، وإذ تحسب جيشها لكون «بنك الأهداف» الروسي يشمل كل بنيته التحتية، بغية شله وتعطيل حركته منذ الأيام الأولى للحرب، فإن استعداداته بدت فاعلة ومكلفة للعدو حتى في مواقع حوصرت ودمرت بنسبة كبيرة، كماريوبول وخيرسون وخاركيف...

بعد شهر على الغزو، لم يحرز انفصاليو دونباس في الشرق تقدماً في السيطرة على الحدود الإدارية للإقليم، وظلت الجبهات مشتعلة لتبدأ منها المرحلة الثانية المرتقبة، الوشيكة، للحرب.

دمر الروس ما أرادوا تدميره في المرحلة الأولى، خربوا الاقتصاد ومقومات الحياة العادية، هجروا ملايين الأوكرانيين، وعلى الرغم انسحابهم من محيط كييف وعدد من المدن فإنهم يواصلون القصف مستهدفين المدنيين.

وللمرة الأولى بدا فلاديمير بوتين كأنه صادق بقوله، إن «العملية العسكرية لا تهدف إلى (بالأحرى، لا تستطيع) احتلال أوكرانيا». صحيح أنه أنزل بشعب الدولة المجاورة كل أنواع الخسائر، وارتكب جنوده مجازر ضد المدنيين، لكنه لم يحصل على الاستسلام ولم يحقق الانتصار الذي توقعه، ولو توغل جنوده أكثر في المناطق غربي نهر الدنيبر لكانوا غرقوا فعلاً في «أفغانستان ثانية»، أي في حرب استنزاف بالغة الكلفة البشرية.

إذاً، عودة إلى شرقي أوكرانيا لإنجاز التقسيم الذي كان شبه منجز وينبغي فقط استكماله وتحصينه.

لم يخطئ الأوكرانيون إذ أبقوا قواتهم في دونباس، ولم يسحبوا أجزاء منها لنجدة مناطق أخرى مرت وتمر بظروف صعبة.

فالمعركة الحقيقية ضد الاحتلال ستُخاض في الشرق، ومسألة السيادة على كامل الأراضي تُحسم هناك أياً تكن الصعوبات.

وبعد استعادة هذه السيادة يكون كل شيء ممكناً بين أوكرانيين، بما في ذلك حقوق القوميات المختلفة ولا مركزية الحكم أو «حياد» البلاد وعلاقاتها مع الاتحاد الروسي والاتحاد الأوروبي. لم يعترف الأوكرانيون بانفصال دونباس ولا بخطوط التماس كحدود داخلية، بل تمسكوا بالأرض كما فعلوا طوال الأعوام الماضية منذ 2014، خلافاً لرغبة موسكو (منح منطقتي الإقليم «حكماً ذاتياً») التي غدت لاحقاً أحد شروط وقف الحرب (الاعتراف بدونيتسك ولوغانسك كـ«جمهوريتين شعبيتين»).

وكان بوتين أعلن بنفسه عشية الغزو اعترافاً بهاتين «الجمهوريتين»، وجارته فيه «جمهورية» أخرى تابعة هي أوسيتيا الجنوبية، فيما أعلنت بيلاروسيا «احتراماً وتفهماً» لقراره، وأبدى النظام السوري استعداده للاعتراف بهما بعدما كان وزير خارجيته من أوائل الذين أيدوا الغزو خلال وجوده في موسكو. هناك تماثل بين تقويمات وزارات الدفاع الغربية في أن بوتين يبحث عن نصرٍ ما في أوكرانيا ليتمكن من تطبيق نصيحة الصين بفتح صفحة تفاوض قد تكون متاحة عبر المانيا وفرنسا.

يقدر البنتاغون وغيره أنه يسعى إلى هذا النصر بـ«الاستيلاء» على دونباس كمسوغ لوقف الحرب أو إنهاء مرحلة أخرى فيها، ثم استخدام هذه الورقة «للتفاوض على تنازلات أوسع من أوكرانيا»، وفقاً للناطق باسم البنتاجون، أو استخدام المنطقة كـ«نقطة انطلاق» إلى المرحلة التالية. وبمقدار ما أن الولايات المتحدة وحلف الأطلسي يريدان حرمان بوتين من هذا «النصر»، بمقدار ما أنه سيوظف كل الأسلحة للحصول عليه، مهما بلغت شراسة المعركة ووحشيتها.

لذلك أعرب فولوديمير زيلينسكي عن خشية من تدمير دونباس، محذراً من أن روسيا تريد الإقليم خالياً من السكان. قد يكون ذلك واقعياً لأن وظيفة دونباس أن يكون «منطقة فاصلة" أن يحصل بوتين على دونباس بالقوة يبقى احتمالاً كبيراً، فالإقليم كان تحت هيمنة روسية مباشرة منذ ثمانية أعوام، لكنه لم يشن حربه من أجل ذلك.

أما أن يُرغم كييف على تنازلات لم يتمكن من انتزاعها يوم كان يحاصرها ويفاوضها، فهو احتمال صعب. لا بد أن الرئيس الروسي يدرك الآن المتغيرات التي أحدثها غزوه، ليس في أوكرانيا فحسب، بل في محيطها الأوروبي، وفي بقية العالم، ناهيك عن المتغيرات التي فرضتها العقوبات الغربية على روسيا نفسها.

إذ إن حلف الأطلسي يواصل إجراءات تعزيز نشر قواته وأسلحته، وتخصص حكوماته أضخم الميزانيات للضرورات الدفاعية. الدول (السوفياتية سابقاً) التي ضمها «الناتو» أصبحت الآن أكثر رسوخاً في أطلسيتها، والدول الغربية باتت متيقنة بأن الخطر طويل المدى ولا تملك تصوراً واضحاً لنهايته، لذا تحث ألمانيا الخطى للخروج شيئاً فشيئاً من القيود التي فرضت على قوتها وتسلحها غداة الحرب العالمية الثانية.

ولكي تفكر السويد وفنلندا في مغادرة «حيادهما» التاريخي وطلب الانضمام إلى «الناتو»، فهذا يعني فعلاً أن النظام الدولي الذي أتاح ذلك الحياد واحترمه لم يعد مضموناً.

أما اشتراط روسيا نزع سلاح أوكرانيا وفرض وضعية الحياد عليها فأدى الغزو عملياً إلى مضاعفة عسكرتها وانحيازها إلى الغرب.

قد تكون هذه المتغيرات محسوبة أو متوقعة أو حتى مطلوبة لدى الكرملين، لكنه يراهن على المدى الطويل نسبياً، وعلى أن خطط الغرب لمواجهة نفوذَي روسيا والصين لن تكون استراتيجية متكاملة أو متماسكة إلا إذا استطاع أن يحول مغامرته الأوكرانية إلى هزيمة واضحة وكاملة. وإذ يقول سيرغي لافروف إن «العملية الروسية في أوكرانيا تهدف إلى وضع نهاية لمسار هيمنة أمريكا على العالم»، فإن تزامن كلامه مع مزيد من العقوبات على روسيا، ومزيد من التسليح النوعي لأوكرانيا، يضاعف الأهمية الاستراتيجية لمعركة دونباس التي لن تكون تقليدية، بل مفتوحة على كل الاحتمالات. سيتبين فيها ما إذا كان التسليح الأمريكي للأوكرانيين حافظ على حذره لتمكينهم فقط من الصمود، أم لمنع أي «نصر» روسي.

ثمة مخاوف من انزلاق معركة دونباس إلى أخطر الخيارات، خصوصاً أن بوتين كان لوح بالسلاح النووي، وقد لا يتوانى عن استخدام السلاح الكيماوي لحسم القتال في بعض المواقع. والأكيد أنه تلقى خسارة سفينة «موسكفا» باعتبارها «رسالة» أميركية موجعة.

* ينشر بالتزامن مع «النهار العربي»