المسيحيون في لبنان يشبهون من يقف على رماد نارٍ تحتها كثير من الجمر الملتهب. فقد حطوا السلاح جانبا بعد اتفاق الطائف، بعد أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها، وبين عشيةٍ وضحاها، خرج سلاح الجمهورية الإيرانية ووُجه إلى صدورهم، البعض منهم طأطأ الرأس وانحنى؛ وكثير من الشرفاء لم يرتضوا بذلك الأمر؛ الذي يشي بمرحلة دينيةِ فاشية يكفلها حزب الله الإرهابي، بالضرورة أن تمر على البلاد وتخرجه من إطاره ومحطيه؛ وتكسر الصورة الرومانسية عن الدولة الأقرب في وصفها إلى سويسرا الشرق، برغم أنها أجمل وأزهى من سويسرا الغرب.

رضي أو ارتضى جماعة من الأصدقاء المسيحيين بالأمر الواقع مع عدم ترك الحبل على الغارب؛ من خلال انتهاج المناكفة السياسية التي يكفلها المناخ السياسي في لبنان، وانتقلت الحرب من الشارع؛ إلى إعلامية في وسائل الإعلام، وبرلمانية تحت قبة البرلمان، يكفلها وجود حزبٌ تابعٌ لخارج حدود الوطن، شكله الظاهري سياسي، لكنه في حقيقة الأمر مُتطرفٌ إرهابي، له أكثر مما لهم، وعليه أدنى مما عليهم، وسلّم بالأمر الشعب قبل الدولة – هذا إن كان هناك دولة في الأساس -. ولم تهدأ لبنان منذ تلك المرحلة التاريخية حتى اليوم؛ فالحرب المشتعلة لا تزال في أوجها، من خلال تجاوز حزب الله في جبروته حدود الدولة في عدة جهات، فقد ضرب بكل الأعراف والقوانين الوطنية والدولية والإنسانية عرض الحائط، ورمى بكل ثقله في الحرب الدائرة بين شعبٍ ودولته في سوريا؛ وتواجد بناء على أساس طائفي في الاقتتال المذهبي في العراق، وزج بقواته في الحرب التي دخلها شراذم الحوثي مع المملكة العربية السعودية، وهي الدولة التي تعتبر حاضنة العالم الإسلامي، وهذا نابع من انكساره وانبطاحه بل تدني قيمته الأخلاقية والسياسية مقابل الفاتورة القادمة من مكتب المرشد في طهران، وتفرض عليه الركوع والخنوع وتنفيذ الأمر، ولا خيار غير ذلك.

وذلك الأمر دفع الأخوة بعضا من مسيحيي لبنان للصمت والتغاضي أحيانا، خوفا من سلاح الحزب، إلا أنه وفي بعض المنعطفات التاريخية، لم تفتأ القيادات المسيحية «الشريفة» – وأعني بالشريفة؛ الشريحة المسيحية التي لم ترتم في الحضن الإيراني؛ مثل ما ارتمى التيار الوطني الحر بزعامة جبران باسيل صهر الرئيس الذي يُدير الدولة هو وحزب الله من وراء ستار، وتيار المردة بزعامة سليمان فرنجية وغيرهم – عن مواجهة الحزب وممارساته الداخلية والخارجية؛ مُتجاهلةً امكانية تصفية رموزها، كما ذهب رفيق الحريري في وضح النهار عام 2005، وهي العملية الكبرى التي فتحت أبواب الاغتيال على مصراعيها، وأخذت بعدها تلك العمليات منحى متصاعد؛ وصولا إلى تصفية سمير قصير؛ وجورج حاوي الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني؛ والزميل جبران تويني، وبيار الجميل، ووليد عيدو، وانطوان غام، ووليد عيدو، واللواء فرانسوا الحاج، ووسام الحسن، والزميل لقمان سليم. والقائمة تطول، وقد تكون بحاجة إلى مقالٍ كامل. وعلى ذكر القتل وقوائم التصفيات، أذكر أنني قد أجريت حوارا مع الدكتور سمير جعجع رئيس أو زعيم حزب القوات اللبنانية في 29 أكتوبر 2012، كان الحكيم وقتها صريحا ربما أكثر من اللازم؛ وأكد حينها بعد أن انتقد حكومة نجيب ميقاتي؛ وإنه لو كان مكانه لرحل من رئاسة الوزراء، بالقول «أنا أول اسم على قوائم التصفيات. وحزب الله دولة داخل دولة، وإيران تسلحه بكل أسف تحت شعارٍ المقاومة شعارٌ برّاق، وهو حقُ يُراد به باطل. فإذا كانت المقاومة حقيقية فهي القوة الحقيقية التي يلتقي حولها الشعب اللبناني، وليس حزب، أو مذهب، وانطواءه خلف هذا الشعار. واللواء وسام الحسن قتل نظير وجوده في خانة المنفلتين من محور – إيران، سورية، حزب الله -. علينا أن نواجه بما نؤمن به، لا بما يدفعنا الآخرون لمواجهته. لا تستطيع دولة وثورة أن يتعايشا في نفس الأرض». واستعادتي لذلك اللقاء بعد أن مضى عليه ما مضى، لم يكن مصادفةً، إنما كان لغبطة البطريرك بشارة الراعي الدور في تقليب أوراق الذكريات، حين أرجعني هجومه قبل أيام، ضد حزب الله؛ لحديث الحكيم الذي سمعته منه قبل 11 عاما.

فلم يتوان غبطته بحضور رئيس الجمهورية ميشال عون – حليف حزب الله والمُمتثل لأمره -، عن مطالبته صراحةً بضرورة أن تبسط الدولة سلطتها على كامل أراضيها؛ وتوحيد السلاح والقرار، امتثالا لقرارات مجلس الأمن، واعتماد الخيارات الاستراتيجية التي تعزز علاقات لبنان بمحيطه العربي، والعالم الديمقراطي.

إن التصور الذي يجول في خاطر الراعي بعيداً عن كونه متطابقا مع رؤية الحكيم جعجع، فهو يُنبئ بأن لبنان منذ وقتٍ بعيد، أسيرةً لتجسيد وتنفيذ حزب الله لأيديولوجيا إيرانية متطرفة، لا يمكن الخلاص منها إلا بثورة حقيقية، يقوم بها اللبنانيون من الشرفاء، لتضع حدًّا للتجبر الذي يعيشه هذا الحزب الفاشي، الذي تخلى عن المبادئ الوطنية والأخلاقية، تحقيقًا لرغبةٍ قادمة من بعيد. خلاصة القول إن لبنان لن يستقيم بأصواتٍ سياسية أو دينية؛ فالحاجة مُلحّة لوقفة شعبية جادة تنحر كل من يتعالى على الوطن. وإلا ستصبح الدولة «حارة كل من أيدوا إلو»، وواقعيا هي كذلك، منذ الأزل.. على كف عفريت.