لم يكن يا صديقي «جبل عبادي» المكان الوحيد الذي نصعده، وملتقى الأحباب الذي نؤمه، فلقد كنا نهبط إلى أسافل مكة المكرمة وخصوصًا في تلك الليالي المشرقة من شهر رمضان، أقف تحت المقام أترقب لحظة نزولك، تقابلني بتلك الابتسامة الوادعة.. قلبـك -يا أبا محمد- لا يعرف حقدًا أو ضغينـة، ونظراتـك -دومًا- تتجه صـوب الأرض، تقـول لي أنـا مـن أولئـك القـوم الذيـن تـرى في وجوههم مكنون صدورهم، كأنك تعلن بتلك العبـارة عـن مقتـك للوجوه المقنعة والسلوكيات الخادعة.

نسير بين سواري المسجد.. تتوقف فجأة، تحـني قـامتك التي اقترنت في أذهان الناس بذلك الشموخ والكبرياء الذي لا يعرف المذلة إلا للذات العلية -وحدها- ثم تتنــاول مـن حصبـاء المسجد «دورق» الماء وتحمله بين يديك، لطالما تعجبـت مـن سـاعد منحه الله تلك البسطة والقوة، إنه الساعد الذي يكد ليحصل على لقمة العيش النظيفة وهو الساعد الذي سخره الله لمعونة الضعفاء والغرباء.

نتجاوز «مشاية» باب أم هانئ، ومنه إلى السوق الصغير ثم إلى الهجلة، تحدثـني عـن رجـال أقوياء عرفتهـم في «الشبيكة» كـأنني أنظر إليـك وأنـت تتحـدث «كنـت شـابًا» جئت لألعـب «الكبت» هناك.. تشير إلى موضع معين.. كان يوجد رجـل اسمـه «عبد ربه» طويل القامة.. متناسق الجسم.. جئت لألعـب معـه فيما كان وقتها يخرج علبة صفراء يحتفظ فيها بالتبغ.. كـانت يداه مشغولتان بإبرام تلك الورقة الشفافة مـن دخان «العماميدي»، وكانت نظراته تلاحقني ما إن تجاوزت قدماي «الشخط» حتى مد الرجل يده وأعادني ثانية إلى الموضـع الـذي انطلقت منـه لم يتحـرك مكانه وما اهتزت أنامله التي كانت تعالج لفافة الدخان، كنت -ياصديقي- شجاعًا وكنت مغرمًا بمواضـع القـوة في كل شيء، القوة التي تستثمر في الخير وتستغل في مواضع الإصلاح.....

نترك مقهى «الإسطنبولي» مع أذان العشاء، نلج إلى الحـرم ننعم بالأصوات الندية المنبعثة من المقامين، كلانا كان يحـب صـوت «خطاب شـاكر» كـان شيخًا للمؤذنين ووالـده مـن قبـلـه الشيخ يعقوب شاكر -رحمهما الله- وكلانا كان يأنس لصوتي الشيخين عبدالله خياط، والشيخ عبدالله الخليفي – رحمهما الله.

تنقضي صلاة التراويح، نعاود الخروج إلى الهجلـة -ثانيـة- على الشارع العـام وبالقرب مـن السـوق الصغير تقـع دار أحـد الأحباب، رجل ناحل الجسم، ضـامر البطـن، أسمر اللون ولكنـه مشرق الوجه عذب الحديث.. كريم اليد.. إنـه صديقـك أحمـد عبـدالـرزاق -رحمه الله- يصعـد إليـك في الفلق وتهبط إليـه في «الهجلة» أعجـب مـن تلـك الأناقة التي كانت تتميز بهـا تلـك الشخصية وعندما كان «أبو عبدالناصر» يسكب لنا أقداح الشـاي كنت أختلس النظرات لألاحق حركة أنامله، وعلى العكس من بقية أنداده فلقد كان نادرًا ما يحمل «العصا» وإذا حملهـا طـربـت لذلك الفن الذي كان يبديه في لفها، يخاطبـه أبـو محمـد قائلاً: يـا أبـا أحمد..

الكل في أحياء مكة المكرمة يدعي أنه حضر ليلـة «بـازنقر» وشارك فيها، يبتسم رجل الشبيكة.. يقول: وهـو يشير بيديـه هناك وفي الليلة نفسها.. رأيت الرجل، كان مرتديًا لباسًا أبيـض - العمامة كانت بيضاء - كانت بيننا جفوة، استوقفني، سلم علي، ثم قال: سامحني يا أخي أحمد، ذهـب إلى الحلقة وقضى في الليلة نفسها – قالوا: إن صوته في الحلقـة كـان متميزًا بين بقيـة الأصـوات، يتنقـل بـين الصفوف ثـم يعـود إلى صـف جماعتـه..

إلا أنها كانت ليلتـه «يا قنفذ فين تنفذ؟» لم يعرف حتى الآن «غريمه» ويوم سقط، وقف على رأسه رفيقه «البرج» لم يدع أحـدًا يمسه، هكذا ناموس اللعب ونظام الحلقة وحمله الرفاق على أكتافهم بعد أن جاء إلى الجمع على قدميه يصمت فجأة محدثنا «عبدالرزاق» ثم يقـول: تـرى هـل كـان الثوب الأبيض الذي رأيته يرتديه في تلك الليلة له دلالة على ما وقع له؟

ويذرف دمعة يمسحها بطرف إصبعه.. ثم يواصل حديثه لقد طلب مني السماح ورد السلام، لا بد أنه كان يحس شيئًا في أعمـاق نفسه، صفحة الحديث تنطوي – ويدخل صديقنـا إلى مقعـد داره، وأواصل مسيرتي مع رفيقي إلى الشامية -واليوم- أواصل أشـجاني معها ومع الأحباب فيها.

1984*

* كاتب وأكاديمي سعودي «1953 - 2020».